الثلاثاء، 24 يونيو 2025

التسويد صورة مصغرة عن واقع ممارسات تعلمية

 التسويد صورة مصغرة عن واقع ممارسات تعليمية

    يفاجأ كل زائر للمؤسسات التعليمية بعد انتهاء الامتحانات بانتشار غير عادي لأوراق استعملت في التسويد أو في الغش مرمية في جنبات وزوايا ومرافق المؤسسة التعلمية. هذا الحضور اللافت أثار لدينا التساؤل عن هوية وبنية وإمكانيات تصنيف هذه الوثائق التي انتجها المتعلمون/ات في لحظة تهييئ الاختبارات. ثم كيف يمكن نقلها من مصاف النفايات إلى أثار لبنيات تعلمية واستراتيجيات فكرية ومعرفية تعطينا صورة عن طبيعة مدخل الخطأ وارتكابه ومواجهة الوضعيات التقويمية؟

1.     مفهوم سائد عن التسويد:

تستعمل عدة ألفاظ للدلالة عن العملية. فإذا كانت لفظة التسويد والمسودة تحيلان على الأسود. فإن نفس اللفظة بالفرنسية تحيل على لون الضبابBrouillard  (Brouillon)  أي درجة دنيا من اللون الأسود. واللفظة السائدة في المدرسة المغربية " الوسخ" تحيل كذلك على شيء غير نظيف. أما المعنى الاصطلاحي فالتسويد هو محاولة أولى أو تجربة أو تمرين أولي لم يخضع بعد للتحرير النهائي في " المبيضة " أو ورقة التحرير.  يحيل المفهوم كذلك على هوية المسودة بحكم أنها نص بيني يتموقع بين نص أصلي/ مصدر، ونص / هدف خضع لعملية الإنتاج من قبل الكاتب. هذه الوضعية البينية هي التي تضع المسودة في وضع يعفيها من المساءلة والتقويم.

2.     التسويد وبناء المعرفة:

   إذا اتفقنا على أن المعرفة عبارة عن صرح يتم بناءه بطرق واستراتيجيات متعددة وفي كل لحظة تتم إعادة البناء بعد التفكيك فإن نشاط التسويد يساهم بشكل فعال في رسم معالم البناء فعلى ورقة التسويد يتم فك عناصر البناء الأولي وعليها يتم خط معالم البناء الجديد، هذا النشاط يعتبر أداة أساسية للاستطلاع باعتباره الشكل الأولي لإنتاج مشاريع على الورق في كل أشكال المعرفة مع الاحتفاظ بإمكانيات التصحيح والبتر والمحاولة والخطأ بأقل كلفة ذهنية ومجتمعية. كل هذه العمليات لا تتم خارج صيرورة معينة حيث تتيح المسودة التأمل في التفكير نفسه ووضعه على المحك ثم تصبح المسارات التي اتخذها الذهن في عمليات الذهاب والاياب مصدرا للتفكير من خلال هذا المنتوج تبرز آلية تحريرية تعبر عن حالة الكاتب الذي خطت يده ما فكر فيه وألغى مالم يرض عنه وأضاف ما تذكر أو أراد أن يتذكر وأهمل أشياء لم يكن مقتنعا بها في تناغم تام بين اليد والذهن. وحتى شكل الكتابة وبنيان الحرف وثنائية فراغ / كثافة تشير إلى بناءات ذهنية خاصة بالهنا والآن. نخلص من هذه الشبكة التحليلية إلى أن المدرسة هي المجال الواسع لإعادة التركيب أي التسويد الذي يجب اعتباره فضاء للتكوين ومن تم الإقلاع عن اعتباره منتوجا مؤقتا ومن درجة ثانية ضمن الأثار الانتقالية الناقصة فالمدرس/ة من خلاله يشخص العقبات ويقف على المكتسب. والتلميذ/ة يتوفر من خلاله على مدونة تثبت بواسطة مؤشرات مادية على شكل المسار التعلمي وصعوباته وطرق الحلول بل ولحظات الانقباض / الحرج وكذا الارتياح / الفرج والتسويد في نهاية المطاف هو حوار بين ما أعرف وما أنا قادر على إنتاجه الآن.

3.     التسويد والخطأ:

     الخطأ حادث ملازم لمسار التعلم إلا أن المقاربات المبالغة في الكمال ما فتئت تبعده عن فضاء التعلم بل وتعتبره حادثا عارضا من الأحسن إخفائه بمجرد تجاوزه. وتلقى المسودة نفس المصير حيث أن المدرسة لا تكثرت بها وتعتبرها جزءا من بقايا أنشطة التعلم مثل غبار الطباشير المتراكم أسفل السبورة. نجد إذن أن ورقة التسويد هي فضاء للخطأ بامتياز، إنها المكان الذي يمارس فيه المتعلم/ة حريته المعرفية ويتخلص من غرور اليقينيات ويعترف بأن لا وجود لحقيقة بدون خطأ معدل. وقد أسهم "باشلار" في التأكيد على أن المعرفة تنطلق من تساؤلات تفضي إلى عقبات تساهم في إعادة بناء المعرفة القبلية المنطلقة من التجارب الأولية أو الأفكار الجاهزة المرتبطة بالمعرفة العامة. إذن ففضاء التسويد يمنح امكانيات واسعة لإعادة طرح سؤال الذات وفق ثمثلات خاصة ثم بداية الملامسة الخائفة والمحتشمة، ثم الوقوع في الخطأ الأولي والسير في منطقه للوصول إلى عائق قد ينسف البناء الأولي فيترجم ذلك على الورق بتشطيب وإعادة نظر وكذا تركيب بناءات ذهنية أخرى قد تكون مناقضة للأولى. هذه الحالات الذهنية والامكانات التعديلية تتيحها ورقة التسويد حيث تمنح المتعلم/ة الطمأنينة والدعم في وقت يشعر فيه بالتوتر والخوف هذا الفضاء الكتابي يمنحه على الأقل خمس مخارج يمكنه اللجوء إليها وهي: الاضافة – الحذف – التغيير – التحويل – التشطيب... وكل هذه العمليات تكون متجذرة في صلب التأمل المُسائل للذات التي تنفذها في إطار تفاوض يستحضر الآخر المفرد والمتعدد. إذن فوثيقة التسويد ننتج نصا مفتوحا على الذات والآخر وتتيح الذهاب والإياب المنتج للمعرفة والمحتضن للخطأ كعنصر كامن في مسار التعلم. ولعل استعمال دراسة الخطوط والسيمولوجيا كفيلة بالوقوف على هذه الأوضاع والكشف عن خصوصية فضاء التسويد عبر الآثار المتبقية لإقامة علاقة بين المسودة / المرآة والمسودة / الصورة المعكوسة في المرآة.

4.     التسويد والتقويم:

     ارتبط التسويد في المدرسة ارتباطا وثيقا بالتقويم نظرا لما لهذه العملية من عواقب مصيرية على الفرد ضمن مساره الدراسي. فمساحة التسويد هي ذلك الفضاء الآمن الذي يتيح الانزلاق والفشل وإعادة النظر بعيدا عن عيون المصحح/ة. فالتسويد يتيح التقويم الذاتي قبل فوات الآوان إنها مساحة إعادة الكتابة بامتياز. فالرسام عندما يخط على لوحته يتراجع خطوتين أو ثلاثة إلى الوراء ليفحصها عسى أن يعدل أو يلغي ... لكن عندما ينتهي من العملية ويبدأ الحوار بين اللوحة والمتلقي يكون الرسام قد مت رمزيا.    نفس هذا المسار يأخذه منتوج التلميذ/ة الكتابي حيث يحل التقويم المؤسسي عند نهاية تقويمه الذاتي. وعند التأمل في ثنائية التقويم والتسويد في إطارها "الاحتفالي" أي بمناسبة امتحانات رسمية في جميع مراحل التعليم نلاحظ الظواهر التالية:

·        أن أوراق التسويد تخترق مجال المؤسسة كي تكون شاهد إثبات عن هذا الجو الذي يخرج عن المعتاد حيث تعطى لأوراق التحرير أهمية من حيث الكتابة والتنظيم؛

·         إن هذه الأوراق بعد تنامي ظاهرة الغش تتيح التواصل في حين يمنع فيه التواصل بموجب قانون الامتحان. حيث بواسطتها تنسج علاقات مع الزملاء في إطار اقتصاد الغش؛

·        أن هندسة ورقة التسويد تعطي مؤشرات منهجية عن كيفية بناء الدروس ونوع التقويم ومدى قياسه للمعلومة أو الكفاية أو توجهه لحل المشكلات مما يعطي صورة عن النظام التعليمي برمته هذا وحده كفيل بنقل المسودة من النفاية إلى الوثيقة التربوية؛

·      أن العنف الذي يمارس على أوراق التسويد في نهاية حصة التقويم ينم عن رغبة في محو الأثر أو التخلص من الخطأ الكامن في هذه الأوراق وتوحي بمظاهر جماعية لرفض أنواع وأشكال من التقويم التي لازالت تعتمد على الاستجواب والمسائلة والاستنطاق الفكري.

عبد الرحيم الضاقية

 

ملحوظة: نشر المقال على صفحات جريدة الأخبار اليومية بتاريخ 24 يونيو2025 – عدد 3813



تابع القراءة ←

الثلاثاء، 3 يونيو 2025

درس التصحيح ردم للهوة بين انجاز المتعلم/ة ومعيار الصواب

 

درس التصحيح ردم للهوة بين انجاز المتعلم/ة ومعيار الصواب

 

إلى عهد قريب كانت حصة التصحيح جزء لا يتجزأ من مختلف الأنشطة الممارسة ضمن الفصل الدراسي، حيت يعد التصحيح لحظة موالية لعمليات التقويم. ولعل حصص التصحيح تكون مناسبة للتعلم من الخطأ الذاتي المتسرب من المعرفة أو المنهجية التي تم بها تقديم الدروس مما يتيح إمكانيات العودة والتأكد من سلامة المسار. وقد تلاشت هذه الممارسة بفعل عدة عوامل حتى أصبحت منعدمة في بعض المواد الدراسية مما أثر سلبا على المكتسب النهائي للمتعلمين/ات. وقد جاءت مقاربة التدريس الصريح لتحييه عبر إدماجه في هندسة الدرس من خلال لحظات التغذية الراجعة التي تروم عودة المتعلمين/ات في مناسبات متعددة لتفسير منطق تفكيرهم/ن ومواكبتهم/ن في تعديل إجاباتهم/ن ومساعدتهم على رد الفعل من أجل التقويم الذاتي المكون. ويمكن أن تدخل عمليات التصحيح في إطار الممارسة الموجهة وكذا في إطار الممارسة المستقلة التي تدخل ضمن مكونات الدرس.

1 ـ أنواع التصحيح: تختلف أنواع التصحيح باختلاف الرؤية والشكل والإيقاع والأداة، كما تختلف الغايات منه اعتمادا على مرجعيته ومعاييره الداخلية والخارجية.

يتم على مستويين : مستوى المتعلم/ة ، وعلى مستوى المدرس/ة الذي يقوم به مباشرة بعد انتهاء إنجاز النشاط التقويمي أو التعلمي .

التصحيح الفردي

يحيل على النشاط الشائع في الفصول الدراسية حيث تقوم مجموعة القسم بإنجاز تصحيح جماعي بتوجيه من الأستاذ/ة.

التصحيح الجماعي

يتم هذا الشكل من التصحيح بشكل فردي أو جماعي حيث تتم معالجة أوراق التحرير بالتناوب بين أساتذة مادة دراسية بالتعاقب أو بالتزامن .

التصحيح بالتناوب

تنفذ عملية التصحيح سواء الفردي أو الجماعي اعتمادا على المواد المكونة للاختبار حسب المواد أو المكونات فقد يصحح أستاذ مادة الهندسة وآخر مادة الحساب.

التصحيح المتخصص

يحصل عبر تكليف التلاميذ/ات بالقيام بمقارنة عناصر الإجابة مع الأجوبة التي توصلوا إليها مما يتيح لهم فرصة التعديل الذاتي للأجوبة عن طريق التصويب او الإزاحة.

 

التصحيح الذاتي  

 2 ـ أهداف التصحيح: تختلف الأهداف حسب الرؤيا التي وضعها المدرس/ة وتتوزع بين:

·          التشخيص: يهدف التصحيح الوقوف على فحص الوضعية الآنية لمكتسبات المتعلمين/ات ويساعد على معرفة مكامن القوة والصعوبات التي تعتري التعلمات خلال فترة محددة؛

·         التفييئ: يسهم التصحيح في تقسيم مجموعة القسم إلى فئات أثناء تعاملها مع وضعية تصحيح الفرض أو التمرين سواء جماعيا أو فرديا انطلاقا من الوضعية الاختبارية-المرجع؛

·         التقويم Redressement : يحيل التقويم هنا على معنى التعديل والتصحيح أي تغيير مسار معين أو تعديل نموذج  او منهجية ؛

·        ـ التصحيح الذاتي المكون: يمكن التصحيح الذاتي من الرجوع إلى ورقة التحرير أو إلى دفتر الإنجازات من خلال مقارنة الأجوبة الذاتية مع عناصر الإجابة الصحيحة مما يسهم في إعادة بناء التعلمات وفهمها أكثر. وقد سادت في فترات قديمة آليات التصحيح بقلم الرصاص أو بقلم أخضر في نفس مكان وقوع الخطأ مما يساهم في تقريب الهوة بين الإنجاز الذاتي ومعيار الصحيح الذي ينيه المتعلم/ة بشكل شخصي. وتساعده هذه الآلية في كشف مسار ارتكاب الخطا لكي يتم تجنبه في المناسبة القادمة.

3 ـ من أجل تصحيح داعم لمسار ناجح:

ü    التصحيح عملية تواصلية بين المصحح/ة والمتعلم/ة حول مسار مسلوك من طرفهما معا فالأول وضع الاختبار أو التمرين كآلية تقويمية والثاني أجابه بحسب قدراته وكفاياته. وفي جوابه أكد له المصحح/ة صحة المسلك أو عدمه، ثم تأتي مرحلة التصحيح الجماعي كلحظة مكاشفة بينهما في إطار تربوي يستثمر في المستقبل إذن فالعملية برمتها هي إعادة رسم لمسار وليس محطة للوصول؛

ü    التصحيح ليس عرض للأجوبة الصحيحة وكتابتها على السبورة أو على دعامات أخرى دون التفكير الجماعي في نوع المسارات التي يتعين إتباعها أثناء التعامل مع نفس الوضعيات. فالتصحيح الجماعي مناسبة لكشف التعثرات السائدة وسوء الفهم المتسرب سواء من الدروس نفسها أو من الدعامات أو طريقة التهيؤ للامتحان أو شكل ونوع الامتحان.

ü    لا يمكن إجراء التصحيح دون العودة إلى الوضعية الاختبارية لبسط مكوناتها وطرح الخلفية المتحكمة فيها والقدرات والمهارات التي تقيسها. ثم الانتباه إلى توزيع سلم التنقيط وضرورة تدريب التلاميذ/ات على التعامل النفعي معه في علاقة مع الزمن المخصص لكل تمرين؛

ü    من غير المستساغ إجراء التصحيح الجماعي دون تصحيح أوراق التحرير لمعرفة نوع العقبات التي اعترضت التلاميذ/ات وكذا مواطن قوة مجموعة دون أخرى لكي تكون النظرة متكاملة على اتجاهات الدعم والمعالجة المقترحة بعد التقويم التي يتم اقتراحه وفق المستوى المناسب للمتعلم/ة؛

ü     لبناء حصة للتصحيح بمواصفات تستهدف التعثرات، يستحسن أن يتم التركيز على عنصرين أو ثلاث من خلال ترددها في أوراق التحرير. وتكون حصة التصحيح موجهة في نسبة كبيرة منها لمعالجة هذه التعثرات سواء بإعطاء أمثلة ونماذج من أوراق التحرير أو تمكين التلاميذ/ات من إعادة بناء التعلمات على أساس التوجيهات واستثمار الخطأ.

ü    الوقوف مليا على منطوق الأسئلة والتعليمات داخل الوضعية الاختبارية، لأن الكثير من الأخطاء تأتي من عدم فهمها أو معرفة المطلوب.

ü    على مستوى الآثار المتبقية من التصحيح، لابد من التأكيد على الدور الأساسي للسبورة في هذا الباب فالسبورة أداة تواصلية عامة تخاطب الجماعة، وتمكن الفرد من فتح حوار ذاتي معها كي يستدمج التغيير الحاصل بين الخطأ والصواب ويضع فواصل ذهنية بينهما، ومن تم يوجه الخطاب لذاته كي يحصل الفهم. أما على مستوى التصحيح على ورقة التحرير هناك عدة خيارات منها كتابة تصحيحات أخرى منفصلة على دفاتر وكراسات يتم استثمارها كوثائق مرجعية مساعدة على الفهم خاصة في المواد العلمية التي تشتهر بالتمارين التطبيقية وسلاسل الإنجاز. لكن التجربة تبين أن التصحيحات التي تدون على ورقة التحرير تعد نوعا من التصحيح الذاتي وإعادة قراءة تعيد التلميذ/ة إلى موقع الخطأ مكانيا وذهنيا مما يكون له أثر على آلية العود وكشف المطبات وردم الهوة، لأن الخطأ أو سوء الفهم يتعين أن يزال ليس فقط من الورقة بل من ذهن المتعلم/ة وتمثلاته.

منشور في جريدة ألأخبار العدد   3797 ليوم 3 ماي 2025 



تابع القراءة ←

الخميس، 24 أبريل 2025

حفل توقيع كتاب - الكتاب المدرسي: من خلفيات الوظيفة إلى تدبير المسافات - بالمعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط

 شهد رواق مؤسسة آفاق للدراسات والنشر زوال يوم 22 أبريل 2025 حفل توقيع كتاب

  الكتاب المدرسي : من خلفيات الوظيفة إلى تدبير المسافات 

بحضور المؤلفين وثلة من  الأحبة والأصدقاء والصديقات الأعزاء الذين حضروا إلى الرواق في الوقت المحدد. وكانت مناسبة لتقديم الكتاب والحديث عن حيثيات البحث والتنقيب في الموضوع. وقد أثنى المؤلفان على المجهود الذي بدله الناشر اليبد عبد القادر عرابي من أجل أن يكون الكتاب بين يدي القراء في المعرض لتكون مناسبة   لتقديم الإصدارالجديد ضمن منشورات المؤسسة 





  

تابع القراءة ←

الأربعاء، 9 أبريل 2025

التعلم بواسطة تمرين محلول - من الإنجاز إلى التمهير

 


التعلم بواسطة تمرين محلول

  من الإنجاز إلى التمهير

عبد الرحيم الضاقية

من بين التجديدات التربوية التي أتت بها مبادئ التعليم الصريح إيلاء الأهمية للحظة تصحيح الفروض والوضعيات الاختبارية باعتبارها محطات تعلُمية وليس تقويمية فقط. وقد أوصت الدراسات المرجعية لهذا الخيار البيداغوجي باستثمار أمثل للوضعيات الاختبارية بكل عناصرها (أسئلة – أجوبة – أخطاء – تصحيحات) من أجل بناء وضعية تسمح برجوع المتعلم/ة نحو الوراء لاكتشاف مسار إنجازاته في المادة المعنية وتقويمها بشكل ذاتي (Gautier et Bissonette- Révérenciel de l’enseignement explicite- p167). وتعتمد هذه الوضعية على تمرين أو وضعية اختبارية أشتغل عليها المتعلمون/ات في سياق آخر، لكن بعد تصحيح الإنجازات من طرف المدرس/ة يحولها إلى وضعية تعلمية بواسطة تمرين محلول Enseignement par problème résolu . وتختلف هذه الوضعية عن بيداغوجيا حل المشكلات أو التعلم عبر المسائل بحكم أن المتعلم/ة قد قطع هذه المرحلة وهو الآن أمام إنجاز تم فيه استثمار ما كان لديه من قدرات أثناء إجراء الاختبار. كما أن المدرس/ة لا يواجه غموض موقف التحصيل كما في وضعيات تعلمية بل هو أمام مستوى معلوم من الإنجازات يمكنه أن يحولها إلى نسب مئوية ويقدم بصددها دراسة إحصائية. لذا فالجميع قد بذل جهدا في التعامل مع هذه الوضعية من جهة الأستاذ/ة على مستوى التصور والبناء ثم التصحيح، ومن جهة التعلم/ة على مستوى الإنجاز واستثمار المعارف الجاهزة والكفايات المعبئة. وتأتي هذه اللحظة لاستثمار الحلول المختلفة في تحديد ملمح تعلمي جديد نابع من وضعيات تعلمية سابقة ووضعيات إنجاز لاحقة وممارسة تعديلية آنية قد تكون لها آثار إيجابية على التعلمات في المستقبل.

وهذه الوضعية تحقق العديد من المزايا والمكاسب التربوية التي أتبتث الدراسات نجاعتها في وضعيات تكوينية وتعلمية في منظومات رائدة. ويمكن الاستئناس بهذه الوضعية عبر الموجهات الآتية:

-          بعد تصحيح أوراق التحرير يتم عرض الوضعية الاختبارية في حصة التصحيح من خلال تفكيكها إلى مهام قد لا تحترم الترتيب الذي وردت به في الوضعية الاختبارية لأن الهدف هو فحص المنطق التقويمي الذي حكمها أثناء الوضع؛

-          التعرف على الوضعية الاختبارية: نوع التمارين المقترحة – القدرات المستهدفة – أدوات القياس المستعملة – طبيعة الأفعال التوجيهية المستعملة – مدى احترام أو التصرف والاجتهاد في الإطار المرجعي – المحاذير الواجب الانتباه إليها لعدم الوقوع في الخطأ – كيفية توزيع سلم التنقيط- ملائمة الوضعية مع الحيز الزمني المعطى؛

-          يتم الاشتغال الجماعي عليها من أجل إنجازها مع الحرص على إشراك الجميع، حتى الذين فشلوا في الجواب لأن المدرس/ة يعرفهم/ن بحكم تصحيحه للأوراق؛

-          تسهم هذه العملية في اكتشاف الجواب لكن الأهم هو اكتشاف مكان الخطأ لتلافي العودة للوقوع فيه؛

-          يتم التركيز على الجوانب المنهجية التي يتعين الاحتفاظ بها مثلا في إنجاز تلخيص أو استخراج معطيات أو في إبداء الراي أو كشف زمان ومكان وقوع الأحداث أو تطبيق قاعدة رياضية أو فيزيائية؛

-          تغيير العلاقة مع الخطأ واعتباره مرحلة للتعلم وليس فشل مستمر فالجميع يرتكب الأخطاء، ويقوم بالرجوع إليها كي تصبح علامات للتنبيه وليس خنادق يتم السقوط فيها مجددا؛

-          التركيز على تقنية الإنجاز وليس موضوع التمرين من أجل اكتساب مهارات وليس معلومات؛

-          ليس المهم هو الجواب الصحيح لكن المهم هو الطريق المسلوك للوصول إليه؛

-          تدون الأجوبة تحت الأسئلة على السبورة وعلى دفاتر المتعلمين/ات على شاكلة درس عادي؛

-          يكتب المتعلمون/ات بشكل تدريجي الأسئلة والأجوبة بألوان مختلفة على دفاترهم/ن والحرص على اختيار التعبيرات التي يختارونها وشرح المفردات والمصطلحات الصعبة في نفس الآن؛

-          من عناصر قوة هذه الوضعية هي تجاوزها الحدود بين المواد والمكونات التي تفرضها الدروس في المقرر، فهي تعمل على تجاوزها وتقديمها كمكونات شبيهة بالمعارف التي يحتفظ بها الفرد في ذاكرته والتي لا تفصل بين المواد الدراسية، والمستويات، والدروس؛

-          تأخذ الوضعية الاختبارية الكثير من الجهد من الأستاذ/ة من أجل تهيئها واختيار الوثائق والأسئلة الملائمة وتوزيع النقط على سلم متكافئ. كذلك نجد المتعلمين/ات يبذلون جهدا خاصا من التحضير للوضعية للحصول على نتائج جيدة. هذا الجهد كله يضيع حيث بمجرد توزيع الأوراق لينتهي كل شيء، لذا فهذه الوضعية تجعل الجميع يثمن هذا الجهد من أجل الاستفادة منه سواء من حيث صيغ الأسئلة أو نوع الأجوبة والمنهجيات الموظفة وطرق تطبيق القواعد وبناء السلاسل والبرهنة المنطقية؛

-          تشكل هذه الوضعية شكلا من أشكال الممارسة الموجهة التي يكون فيها الاشتغال جماعيا بين مجموع المتعلمين/ات والمدرس/ة مما يفضي إلى تحقيق الدعم والمساندة الوظيفية، والإسهام في تعزيز استقلالية المتعلم/ة في المستقبل؛

-          بما أن الوضعية المطروحة أو السلسلة يعرفها جيدا المتعلمون/ات فإن ذلك يساعد المدرس /ة على استعمال مبدأ الإيقاع المكثف والتفاعل القوي من طرف المتعلمين/ات مما يحقق سلاسة في طرح الأسئلة ومعالجة التعثرات بشكل فوري لأن الجميع يعرف الجواب النهائي؛

-          يعتبر التعلم ب تقنية سؤال/ جواب ناجعة في الكثير من الوضعيات التي تحتاج اكتساب مهارات عملية. ومن نماذجها المشهورة التدرب على قانون السير لاجتياز رخصة السياقة والتي تعرض بهذه التقنية التي تجعل الجميع يستوعب معطياتها بسرعة ويتم ترسيخها في الذهن بسرعة؛

-          ينتهي المدرس/ة من الوضعية بتحذير أو تحذيرين تكتبان كخلاصة في نهاية الوضعية من قبيل «ضمن وضعية الاشتغال على الوثائق الجواب يوجد أمامي» أو «تطبيق القاعدة هو مفتاح الحل»؛

-          ينصح المدرس/ة المتعلمين/ات بالرجوع للتصحيح كذلك من أجل التدرب أو تهيئ الاختبارات الدورية والجهوية أو الفروض الكتابية من أجل التعرف على طبيعة الوضعيات الاختبارية كدروس كذلك؛

-          تتحول هذه الوضعية المكونة من أسئلة وأجوبة إلى معارف ومهارات ومكونات منهجية يمكن الاشتغال عليها تماما مثل الدروس العادية؛

وبذلك يستفيد المتعلم/ة من إعادة النظر في تعلماته من زاوية تقويمية لا تحترم منطق الدرس، كما انها عودة لوضعية سبق أن تمرن عليها، وأتيحت له الفرصة في المحاولة والخطأ. وبعد ذلك تم التقاسم مع إنجازات زملائه تحت مراقبة وتوجيه المدرس/ة الذي يزوده بمحاذير تؤهله لمواجهة وضعيات تقويمية مشابهة أو مخالفة. وتمكن هذا الشكل التعلمي من تطوير الأداء في مختلف المواد الدراسية إن أتيحت الفرصة للمتعلمين/ات للرجوع إلى وضعيات تقويمية محلولة.

مقالة منشورة في جريدة الأخبار عدد 3749 – ليوم 08 ابريل 2025

 

 

 

 

 

 

 


تابع القراءة ←

السبت، 29 مارس 2025

الكتاب المدرسي: من خلفيات الوظيفة إلى تدبير المسافات

 


هذا الكتاب :


الكتاب المدرسي: من خلفيات الوظيفة إلى تدبير المسافات

صادر عن مؤسسة آفاق للدراسات والنشر - 2025

من تأليف : عبد الرحيم الضاقية - وعبد الرحيم نسامي

هذا المؤلف مقاربة لموضوع الكتاب المدرسي من زوايا نظر مختلفة حاملة أسئلة قلقة نابعة من الممارسة الميدانية المباشرة في الفصول الدراسية من أجل اكتشاف ما يختزنه هذا المنتوج المتداول على نطاق واسع من أسرار. وقد اشتغلنا في البداية على موضوعة هوية الكتاب المدرسي تأصيلا وليس تفصيلا، ثم انتقلنا إلى رسم معالم خلفيته التطورية ضمن أزمنة المدرسة المغربية عبر إشارات ونماذج تحيل على تماهي أحداث الوطن مع تصور وبناء الكتاب المدرسي. وانتقلنا إلى تساؤلات أكثر عمقا عبر رصد علاقة الكتاب المدرسي بالمعرفة ومدى قدرته على إعادة بنائها في ظل بنية وظيفية خاصة به تجعله أداة رئيسة لتصريف المنهاج وابداع وضعيات تعيد هندسة النص الديداكتيكي ليكون في متناول المتعاملين/ات معه في ممارساتهم/ن اليومية. ولم تفتنا فرصة التساؤل حول مفهوم المسافة ضمن ومع الكتاب المدرسي لكونها تتيح إعادة لنظر في علاقتنا به والعكس فوضعنا مفهوم المسافة على محك الممارسة من خلال استعمالها في بناء الدروس والأنشطة. وقادنا البحث والتحليل إلى التساؤل عن مستقبل الكتاب المدرسي عبر طرح بدائل الكتاب الورقي ومدى قدرة المنظومة على الاشتغال بكتاب مدرسي رقمي بناء على الثورة التكنولوجية الحاصلة في العالم، وقدمنا معطيات نابعة من التجربة الوطنية والتجارب الدولية في هذا المجال. وختمنا بمحاولة لتقديم نماذج وشبكات عملية لتقويم الكتاب المدرسي من جوانب عدة قد تسعف في بناء أداة نقدية حول جدواه وامكانيات تطويره في ظل ورش الإصلاح المنشود. وأثناء هذا السفر الافتراضي بين صفحات الكتاب المدرسي لم نقتصر على سلك دراسي دون الآخر سواء منه الابتدائي أو الإعدادي أو التأهيلي، كما لو نتوقف عند مادة دون أخرى بل كان دليلنا هو الكتاب المدرسي في شموليته مما أسعفنا في الاستفادة من تجارب مختلف المواد الدراسية من ناحية هندسة الدروس وكيفيات تقديم المعرفة.


تابع القراءة ←
;