التسويد صورة مصغرة عن واقع ممارسات تعليمية
يفاجأ كل زائر للمؤسسات التعليمية بعد انتهاء
الامتحانات بانتشار غير عادي لأوراق استعملت في التسويد أو في الغش مرمية في جنبات
وزوايا ومرافق المؤسسة التعلمية. هذا الحضور اللافت أثار لدينا التساؤل عن هوية وبنية
وإمكانيات تصنيف هذه الوثائق التي انتجها المتعلمون/ات في لحظة تهييئ الاختبارات.
ثم كيف يمكن نقلها من مصاف النفايات إلى أثار لبنيات تعلمية واستراتيجيات فكرية
ومعرفية تعطينا صورة عن طبيعة مدخل الخطأ وارتكابه ومواجهة الوضعيات التقويمية؟
1.
مفهوم سائد عن التسويد:
تستعمل عدة ألفاظ
للدلالة عن العملية. فإذا كانت لفظة التسويد والمسودة تحيلان على الأسود. فإن نفس
اللفظة بالفرنسية تحيل على لون الضبابBrouillard (Brouillon) أي درجة دنيا من اللون الأسود. واللفظة السائدة
في المدرسة المغربية " الوسخ" تحيل كذلك على شيء غير نظيف. أما المعنى الاصطلاحي
فالتسويد هو محاولة أولى أو تجربة أو تمرين أولي لم يخضع بعد للتحرير النهائي في
" المبيضة " أو ورقة التحرير.
يحيل المفهوم كذلك على هوية المسودة بحكم أنها نص بيني يتموقع بين نص أصلي/
مصدر، ونص / هدف خضع لعملية الإنتاج من قبل الكاتب. هذه الوضعية البينية هي التي
تضع المسودة في وضع يعفيها من المساءلة والتقويم.
2.
التسويد وبناء
المعرفة:
إذا اتفقنا على أن المعرفة عبارة عن صرح يتم
بناءه بطرق واستراتيجيات متعددة وفي كل لحظة تتم إعادة البناء بعد التفكيك فإن
نشاط التسويد يساهم بشكل فعال في رسم معالم البناء فعلى ورقة التسويد يتم فك عناصر
البناء الأولي وعليها يتم خط معالم البناء الجديد، هذا النشاط يعتبر أداة أساسية
للاستطلاع باعتباره الشكل الأولي لإنتاج مشاريع على الورق في كل أشكال المعرفة مع
الاحتفاظ بإمكانيات التصحيح والبتر والمحاولة والخطأ بأقل كلفة ذهنية ومجتمعية. كل
هذه العمليات لا تتم خارج صيرورة معينة حيث تتيح المسودة التأمل في التفكير نفسه
ووضعه على المحك ثم تصبح المسارات التي اتخذها الذهن في عمليات الذهاب والاياب
مصدرا للتفكير من خلال هذا المنتوج تبرز آلية تحريرية تعبر عن حالة الكاتب الذي
خطت يده ما فكر فيه وألغى مالم يرض عنه وأضاف ما تذكر أو أراد أن يتذكر وأهمل
أشياء لم يكن مقتنعا بها في تناغم تام بين اليد والذهن. وحتى شكل الكتابة وبنيان
الحرف وثنائية فراغ / كثافة تشير إلى بناءات ذهنية خاصة بالهنا والآن. نخلص من هذه
الشبكة التحليلية إلى أن المدرسة هي المجال الواسع لإعادة التركيب أي التسويد الذي
يجب اعتباره فضاء للتكوين ومن تم الإقلاع عن اعتباره منتوجا مؤقتا ومن درجة ثانية
ضمن الأثار الانتقالية الناقصة فالمدرس/ة من خلاله يشخص العقبات ويقف على المكتسب.
والتلميذ/ة يتوفر من خلاله على مدونة تثبت بواسطة مؤشرات مادية على شكل المسار
التعلمي وصعوباته وطرق الحلول بل ولحظات الانقباض / الحرج وكذا الارتياح / الفرج
والتسويد في نهاية المطاف هو حوار بين ما أعرف وما أنا قادر على إنتاجه الآن.
3.
التسويد والخطأ:
الخطأ حادث ملازم لمسار التعلم إلا أن
المقاربات المبالغة في الكمال ما فتئت تبعده عن فضاء التعلم بل وتعتبره حادثا
عارضا من الأحسن إخفائه بمجرد تجاوزه. وتلقى المسودة نفس المصير حيث أن المدرسة لا
تكثرت بها وتعتبرها جزءا من بقايا أنشطة التعلم مثل غبار الطباشير المتراكم أسفل
السبورة. نجد إذن أن ورقة التسويد هي فضاء للخطأ بامتياز، إنها المكان الذي يمارس
فيه المتعلم/ة حريته المعرفية ويتخلص من غرور اليقينيات ويعترف بأن لا وجود لحقيقة
بدون خطأ معدل. وقد أسهم "باشلار" في التأكيد على أن المعرفة تنطلق من
تساؤلات تفضي إلى عقبات تساهم في إعادة بناء المعرفة القبلية المنطلقة من التجارب
الأولية أو الأفكار الجاهزة المرتبطة بالمعرفة العامة. إذن ففضاء التسويد يمنح
امكانيات واسعة لإعادة طرح سؤال الذات وفق ثمثلات خاصة ثم بداية الملامسة الخائفة
والمحتشمة، ثم الوقوع في الخطأ الأولي والسير في منطقه للوصول إلى عائق قد ينسف
البناء الأولي فيترجم ذلك على الورق بتشطيب وإعادة نظر وكذا تركيب بناءات ذهنية
أخرى قد تكون مناقضة للأولى. هذه الحالات الذهنية والامكانات التعديلية تتيحها
ورقة التسويد حيث تمنح المتعلم/ة الطمأنينة والدعم في وقت يشعر فيه بالتوتر والخوف
هذا الفضاء الكتابي يمنحه على الأقل خمس مخارج يمكنه اللجوء إليها وهي: الاضافة –
الحذف – التغيير – التحويل – التشطيب... وكل هذه العمليات تكون متجذرة في صلب
التأمل المُسائل للذات التي تنفذها في إطار تفاوض يستحضر الآخر المفرد والمتعدد.
إذن فوثيقة التسويد ننتج نصا مفتوحا على الذات والآخر وتتيح الذهاب والإياب المنتج
للمعرفة والمحتضن للخطأ كعنصر كامن في مسار التعلم. ولعل استعمال دراسة الخطوط والسيمولوجيا
كفيلة بالوقوف على هذه الأوضاع والكشف عن خصوصية فضاء التسويد عبر الآثار المتبقية
لإقامة علاقة بين المسودة / المرآة والمسودة / الصورة المعكوسة في المرآة.
4.
التسويد والتقويم:
ارتبط التسويد في المدرسة ارتباطا وثيقا
بالتقويم نظرا لما لهذه العملية من عواقب مصيرية على الفرد ضمن مساره الدراسي.
فمساحة التسويد هي ذلك الفضاء الآمن الذي يتيح الانزلاق والفشل وإعادة النظر بعيدا
عن عيون المصحح/ة. فالتسويد يتيح التقويم الذاتي قبل فوات الآوان إنها مساحة إعادة
الكتابة بامتياز. فالرسام عندما يخط على لوحته يتراجع خطوتين أو ثلاثة إلى الوراء
ليفحصها عسى أن يعدل أو يلغي ... لكن عندما ينتهي من العملية ويبدأ الحوار بين
اللوحة والمتلقي يكون الرسام قد مت رمزيا. نفس هذا المسار يأخذه
منتوج التلميذ/ة الكتابي حيث يحل التقويم المؤسسي عند نهاية تقويمه الذاتي. وعند
التأمل في ثنائية التقويم والتسويد في إطارها "الاحتفالي" أي بمناسبة
امتحانات رسمية في جميع مراحل التعليم نلاحظ الظواهر التالية:
·
أن أوراق التسويد تخترق مجال المؤسسة كي تكون شاهد إثبات عن هذا الجو
الذي يخرج عن المعتاد حيث تعطى لأوراق التحرير أهمية من حيث الكتابة والتنظيم؛
·
إن هذه الأوراق بعد تنامي
ظاهرة الغش تتيح التواصل في حين يمنع فيه التواصل بموجب قانون الامتحان. حيث
بواسطتها تنسج علاقات مع الزملاء في إطار اقتصاد الغش؛
·
أن هندسة ورقة التسويد تعطي مؤشرات منهجية عن كيفية بناء الدروس ونوع
التقويم ومدى قياسه للمعلومة أو الكفاية أو توجهه لحل المشكلات مما يعطي صورة عن
النظام التعليمي برمته هذا وحده كفيل بنقل المسودة من النفاية إلى الوثيقة
التربوية؛
·
أن العنف الذي يمارس على أوراق التسويد في نهاية حصة التقويم ينم عن
رغبة في محو الأثر أو التخلص من الخطأ الكامن في هذه الأوراق وتوحي بمظاهر جماعية
لرفض أنواع وأشكال من التقويم التي لازالت تعتمد على الاستجواب والمسائلة
والاستنطاق الفكري.
عبد الرحيم الضاقية
ملحوظة: نشر المقال على صفحات جريدة الأخبار اليومية بتاريخ 24 يونيو2025 – عدد 3813