الثلاثاء، 12 نوفمبر 2024

النشاط الكتابي في المدرسة: العوائق والأفق

 

النشاط الكتابي في المدرسة: العوائق والأفق

 

يقف المدرسون/ات في كل استحقاق تقويمي أو امتحاني على تدني مستوى المنتوج الكتابي للمتعلمين/ات على مستوى جميع الأسلاك. وقد استمر هذا الانحدار عقودا من الزمن حيث حمل المكتوب المدرسي معه آثار أعطاب المنظومة وفشل الإصلاحات التي لم تستطع ولوج الفصل. وشكلت فترة الجائحة ضربة قاضية لما تبقى من مؤشرات صحية لتوقُف عمليات الإنتاج الكتابي المُوجه من طرف المدرسين/ات، ففقد جل المتعلمين/ات أبسط مبادئ تحرير جمل مترابطة سليمة وذات معنى.

تروم هذه الورقة الاشتغال على هذه التيمة من زاوية التشخيص والتشريح، ثم من باب فتح أفق أهمية المكتوب المدرسي على تكوين مواطن/ة متفاعل/ة.

·        المكتوب ضمن الوضعيات الصفية:

    من الصعب الوقوف على مختلف الوضعيات وفي الكثير من الفضاءات لأن الأمر فيه متغيرات كثيرة لذا سوف نعتمد مؤشرات بحثية ودراسات اهتمت بالموضوع بشكل مباشر أو غير مباشر. الملاحظ أن هناك تراجع كبير لأنشطة الكتابة في المدرسة وتعويضها بأنشطة أخرى غير مُلتهمة للوقت والجهد. وقد نتج عن ذلك تراجع إيقاع تكرار وضعيات الكتابة التي تحولت في الكثير من الأحيان إلى أنشطة مفككة تستعمل تقنيات ملأ الفراغ، والتخلي عن الصياغة الفعلية من قبيل تمرين تركيب الجمل الذي انقرض من الفصول الدراسية. كما عزز هذا المنحى تحول طرق التقويم من تمارين تركيبية إلى أسئلة مفتتة من قبيل الاختيار من متعدد أو إعادة الصياغة بمتغير الكلمة أو الجملة بدل الفقرة والتحرير المسترسل. ووقفت الدراسات كذلك على معطى متعلق بالمناهج الدراسية التي أصبحت مكتظة بالعديد من المكونات من قبيل «التربية على...» الشيء الذي حولها إلى شبه سلعة جاهزة للنقل والتوصيل السريع في زحمة إجراءات تقنية تتبنى الطرق «النشيطة» التي تراهن على التخلص من الدروس بتدوينها على دفاتر النصوص أو المذكرات اليومية. وتحولت الوضعيات التعلمية إلى عمليات منزوعة السياق لا يتم التوقف عندها شفهيا وتفاعليا ثم فهما من أجل ايقاظ الوعي وبناء الموقف الذي يمكن أن يُترجم في ردود أفعال يُمكن استثمارها في نشاط كتابي على شكل تلخيص أو تقرير أو تركيب أو فقط أخذ نقط. لم يطل الاكتظاظ المناهج والمقررات بل اجتاح الأقسام الدراسية التي أصبحت أحجامها غير مُسعفة في تفعيل طرق تُذكي الفهم والتأمل ثم رد الفعل في ظروف سليمة. ولم يعد المدرسون قادرون على التدريب على الكتابة عبر المراحل التي كان متعارف عليها في السابق. هؤلاء المدرسون/ات طالتهم كذلك سرعة الإنجاز في التكوين البيداغوجي التي تحول من عدة سنوات إلى بضع أشهر مما خلف أعطابا كبرى على مستوى التعامل مع الوضعيات التعليمية التحصيلية ومنها الاشتغال على إنتاج المكتوب. هذه الوضعية العامة خلقت مدرسة بسرعات متعددة وبمناهج مختلفة ما بين الخصوصي والعمومي وداخل نفس المجال. وبالنتيجة أسفر بحث ميداني أجري في عينة ممثلة من تلاميذ/ات السنة السادسة ابتدائي بالمغرب إلى أن التمرين الكتابي يشكل صعوبة بالنسبة ل 73 % لمجموع العينة المدروسة مما يشكل عقبة أمام تطوير ملكة الكتابة لديهم في المستقبل. ووقفت دراسة أخرى في الإعدادي على ضعف كبير في الإنتاج الكتابي بحيث شملت عينة البحث 100 ورقة تحرير صادف خلالها المصحح 812 خطأ أي بمعدل 8 أخطاء لكل ورقة وتوزعت بين أخطاء إملائية بنسبة 51 % وأخطاء تعبيرية بنسبة 36 % مما يؤشر على حجم الفوارق التي نحن بصددها سواء في الابتدائي أو الثانوي.

 

·        أهمية المكتوب في نماء قدرات المتعلم/ة:

    لن يحجب عنا الواقع الذي وقفت عليه الدراسات الميدانية أهمية التمرين الكتابي على مستوى الفصل الدراسي وكذا على وضعيته ضمن المنهاج الدراسي. فالكتابة هي عملية تحويل أفكار إلى حروف وجمل وعبارات تحمل إلى الجميع ما يفكر فيه المتعلم/ة بوصفها ليست فقط عبارة عن عرض للجمل وتسويد للأوراق، بل هي منح معنى لما يكتبه المتعلم/ة من خلال استراتيجيات الشرح أو التحليل أو الوصف. فالكتابة بهذا المعنى تثبيت للأفكار التي تكون في أصلها تداعيات ومشاعر بدون معنى لتحولها الكتابة إلى معارف ناقلة لقيم مجتمعية أو كونية. كما أن كتابة هذا النص الذي يحمل تلك القيم هو عبارة عن دعامة تواصلية في محفل تلقي بمواصفات معينة، هذا اللقاء بين الأفكار يولد تطويرا للفكر النقدي الذي يعطي مكانا للرأي الآخر وينصت لما عبر عنه حيال المكتوب مما يحُد من الأفكار المسبقة والأحكام الجاهزة. فالكتابة حضور وتعبير عن هوية خاصة وأخرى جماعية واستكشاف لعوالم ذاتية وغيرية، إنها إبداع لعالم داخلي قادر على التعبير عن نفسه بلغة يختارها دون قيد أو شرط (Auvergne et al., 2012, p15). واليوم فثقافة المكتوب تكتسب قدرات جديدة مع انفجار المعرفة ودخول الذكاء الاصطناعي إلى محفل المعرفة والتواصل، لأنها تعطي القدرة على الانتقال من مجرد تلقي المعلومة عبر الوسائط المختلفة إلى القدرة على رد الفعل الكتابي والتعليق عليها، وتحليلها والتعبير عن الرأي بصددها، بل ونقضها وكشف زيفها على نفس المنصة وبنفس المواصفات. ولعل الاحتفاء بالمكتوب المدرسي وإعطاءه القيمة التي يستحق يمكن التعبير عنه بجانب من التربية على الوسائط Education aux médias   التي بدأت بعض المنظومات التربوية تدخلها تدريجيا ضمن مناهجها عن طريق دمجها في وضعيات موجودة أصلا كتحليل النصوص أو التعليق عليها. ومن المداخل الرئيسة لهذا المنحى تشجيع الكتابة الإبداعية الخاصة بالمتعلمين/ات من المستويات التي تقدر على إنتاجها والتي يمكن الاشتغال عليها في بدءا من السنتين الخامسة السادسة ابتدائي حتى نهاية المسار الدراسي المدرسي الجامعي. وتروم هذه الكتابة التعبير الحر والتدرب على التعامل مع النصوص الأخرى بشكل محايث من خلال التلخيص والتعليق وانتاج هوامش أو المحاكاة من أجل إنتاج نصوص يعتبرها المتعلم/ة خاصة به. ومن التقنيات المستعملة كذلك الاحتكاك مع كبار الكتاب والمبدعين/ات من أجل اكتشاف طرقهم/ن في الكتابة وتعاملهم مع أجناس الوصف والتفسير والحجاج لاكتساب بعض من دروسهم الكامنة في النص. وتوصي الأبحاث في هذا المجال بضرورة عدم الاقتصار ضمن هذا التمرين على اللغات والفلسفة بل يتعين توسيع ملكة الكتابة الحرة إلى مواضيع علمية وتقنية من قبيل البيئة والسكان والاقتصاد والإحصاء وعلوم الحياة والأرض والطاقة من أجل التعبير عن الرأي وعدم الخضوع لحتمية الأرقام التي تخفي الحقائق أكثر من إظهارها. فالكتابة تعبر عن التنوع وتحارب البعد الواحد في التفكير مما يؤشر على طابعها الإنساني المتميز بالتفكير المتعدد الأبعاد والمرجعيات. فعندما يكتب تلميذ جملة أو فقرة فهو يختار كلمات معينة وبنية خطابية وأسلوبا يعبر عنه وعن شخصيته ودرجة وعيه بالموضوع. وهذا التمرين يختلف اختلافا جذريا عن كتابة أرقام متفرقة أو كلمات متفرقة في خانات أو جداول معدة سلفا بواسطة المدرس/ة أو برنامج معلوماتي، وهو التمرين السائد اليوم في الكثير من الفصول الدراسية تحت يافطات السرعة وتحقيق المهارات والفعالية التربوية المفترى عليها.

عبد الرحيم الضاقية - كاتب وباحث في التربية والتكوين

 


جريدة الأخبار - العدد  3628  بتاريخ 12 نونبر 2024

 


;