الخميس، 10 أكتوبر 2019

العمارة المدرسية فضاء حاضن للتعليم والتعلم بين الوظيفية والرمزية


عبد الرحيم الضاقية
 عندما نهم بالدخول لمؤسسة تعليمية كثيرا ما ننسى أننا في حضن مركب معماري تواضع المجتمع على أن يخصصه للتعليم والتعلم  . يشعر المتعلم وهو يلجه لأول مرة برهبة وقدسية خاصة تبقى راسخة في ذهنه مدى الحياة .   فالمؤسسة التعليمية هي أولا بناية بمواصفات تقنية معروفة وهي كذلك شكل هندسي يحتل الفضاء ويشكله، كما أنه يقوم بوظيفة اجتماعية وتربوية تعد من الضروريات التي ترتبط بها مجموعة بشرية تقدم لها خدمة عمومية بالغة الحساسية لأنها تهم شريحة مجتمعية في طور النمو والتكوين.ويعرف الفضاء المدرسي اليوم أشكالا من الانتهاك يجعل صورته تتراجع  في مخيال الجميع مما يجعل التساؤل عن وظيفتها ورمزيتها تكتسي طابع الراهنية والاستعجال  .

1 - المدرسة كعمارة:
تحيل العمارة كفاعلية بشرية على حقل دلالي يستدعي ملئ الفراغ وأنسنة المجال الطبيعي ولا غرابة أن تعتبر من أهم آثار الحضارات والشعوب بل وأصبح بعضها إرثا حضاريا إنسانيا. وعند استدعاء العمارة لابد من التفكير في مسار إنجازها ابتداءا من التصور والتصميم إلى الإنجاز والاستغلال.  
·      لمحة تاريخية:
ارتبطت المدرسة كبناية في المغرب بمكان العبادة أي المسجد حتى مجيء الاستعمار الذي عمل على تأسيس نظام تعليمي عصري إلى جانب المدرسة التقليدية. وتحمل العمارة المقدسة دلالات قوية في المجتمع حيث حظيت بالاهتمام والصيانة لأنها تمثل حماية رمزية للكيان الروحي للأفراد والجماعات وملاذا آمنا تأوي إليه في حالة تعرضها لأي مكروه حقيقي أو محتمل . فكان المسيد أول مدرسة يأوي إليها طالب العلم أو التلميذ وهو عبارة عن جزء من بناية المسجد. ويمكن أن تكون المدرسة كذلك ضمن زاوية مرتبطة بضريح أو جامع، ثم ينتقل الطالب من البادية أو المدنية الصغيرة إلى إحدى المدن العلمية الكبرى كفاس أو مراكش حيث تصبح البناية أكبر وعدد الطلبة أكثر، وقد ينتقل إلى المشرق، لكن شكل العمارة لا يتغير حيث تبقى المدرسة / المسجد  هي السائدة (Laroui, 1980, p 193). إلا أن مرحلة الحماية تعد فترة فاصلة حيث دخلت فرنسا للمغرب بعد حدوث ثورات فكرية واقتصادية في أوربا وكان النصف الثاني من القرن 19 مرحلة حافلة بالتغييرات على مستوى النظام التربوي حيث بني النموذج الحالي للمدرسة تنظيميا ومجاليا وكانت مرحلة الاستعمار مناسبة لنقل هذا النموذج إلى المستعمرات.  
وكانت مرحلة الحصول على الاستقلال وما بعدها فترة توسيع بناء المدارس وانتشارها مجاليا بتجاوز الخطوط الوهمية التي وضعتها السياسة الاستعمارية. وشكلت فترة الستينيات والسبعينيات مرحلة توسيع البنيات التحتية نحو الجبال والصحراء والواحات مع التركيز على بناء المدرسة في العالم القروي لمحاربة الأمية وتوسيع الولوج إلى المعرفة.
ومن الجدير بالذكر أن الإصلاح والعهد الجديد أديا إلى تطور نوعي للمجتمع المدني الذي دخل كشريك في تحسين فضاء المدرسة وصيانتها بل وقد أثمرت بعض الشراكات في بناء مؤسسات تعليمية بمواصفات عالية الجودة وفي مناطق نائية وصعبة.
·      المدرسة في الفضاء:
يتيح انتشار الوحدات المدرسية أكبر شبكة تغطية على الصعيد الوطني لمرفق عمومي حيث لا يضاهيها إلا السكن، فالمدرسة متواجدة في أماكن لا توجد فيها حتى الإدارة الترابية. وعليه فالمدرسة كعمارة حاضرة بشكل دائم في الفضاء العام. والعمارة المدرسية بالإضافة إلى دورها الوظيفي لها دور تواصلي، فالمؤسسة التعليمية كشكل من أشكال إحتلال المجال البصري يرسل إشارات ذات دلالة تحمل إرساليات ثقافية وجمالية تختلف باختلاف الظرف الموضوعي والمتلقي الذي يستقبل الرسالة ضمن مخزونه التمثلي والمجالي والاجتماعي. والمدرسة كذلك بشكلها المحاط أو المفتوح تشغل مكانا حقيقيا كما أنها تشغل مجالا رمزيا يتم التعامل معها كإرسالية ضمن شفرة معينة.
وقد عرفت العمارة بشكل عام المصير الذي عرفته العمارة المدرسية ناتج في كثير من ملامحه على ما سمي « أزمة المدينة » التي طالها التشويه العمراني بسبب التوسع العشوائي لأحياء ناقصة التجهيز في ضواحي المدن والمراكز القروية والتي استدعت المؤسسة التعليمية إلى جوارها، فأصبحت بناية نشازا وسط نسيج عمراني غير مؤهل  ، ولم تسلم العمارة المدرسية من دينامية العشوائية التي طالت المراكز الحضرية والقروية والمدن الكبرى حيث شهدت بعض الأحياء وتشهد إعادة هيكلة أو إعادة إسكان في أفق مشروع « مدن بدون صفيح». فقد أدت هذه العمليات إلى إعادة تفريخ أحياء عشوائية جديدة أو أعيدت هيكلة الحي أو الدوار لكن المؤسسة التعليمية بقيت فضاءا عشوائيا بسبب ضعف الصيانة وعدم إدخاله ضمن مشروع إعادة الهيكلة. أما المناطق الجبلية والواحية التي وصلها توسيع الوحدات المدرسية فإن شكل العمارة المدرسية والمواد المستعملة غير متوافقة مع المجال ولا مع الظروف المناخية والمعمارية فصارت عبارة عن بنايات تتعرض لهجمات الطبيعة والإنسان بشكل فعلي أو رمزي...
2 - العمارة المدرسية: الشكل والوظيفة:
لاشك أن للعمارة المدرسية أينما كانت شكلا معينا، كما أن وجودها يستجيب لحاجة وظيفية. إلا أن تفاعل البعدين أعطى نقاشا حادا نابعا من تحديد أولوية الوظيفة على الشكل باعتباره ثانويا بالنظر إلى الطلب الملح على المدرسة في مراحل تاريخية معينة. لكن سرعان ما تم الوعي بأن الشكل والوظيفة متلازمان بالقدر الذي يحيل على الرفع من جودة الخدمة والتواصل الداخلي والخارجي لأن الأمر يتعلق ببناء مجتمع مستقبلي في أحضان فضاءات من المفروض أن لا تكون منفرة. فلا يعقل أن تولد مفاهيم الجمال والتناسق والمنطق والانسجام... في فضاءات وأمكنة لا تتوفر فيها مؤشرات دالة أو محيلة على هذه المفاهيم.
·         الحاجة والشكل:
تستجيب العمارة المدرسية لحاجة مجتمعية ملحة تم التعبير عنها منذ وعي الإنسان بذاته. وعلى أساس هذه الحاجة تم التفكير في الشكل الذي تطور مع تطور فكر وعيش الإنسان في تفاعل وتواصل دائبين. وتتشكل الحاجة هذه من أصناف نجملها في الآتي:
أ-الحاجة النفعية: وهي عبارة عن متطلبات قاعدية تتساوق مع حماية المرتفق من صعوبات الطبيعة مع شروط أولية لتأدية المهمة. فالمدرسة لابد أن تحمي التلاميذ وتوفر الحدود الدنيا للقيام بالوظيفة التعليمية وكذا التنظيمية وفق الشروط النظامية. 
ب-الحاجة الرمزية: تعكس الحاجة الرمزية الغايات العليا من إقامة المعمار كأثر يحتل الفضاء ويرسل إرساليات تحمل دلالات على مفاهيم الإنجاز والمشروع المجتمعي الذي يعكس الحكم الرشيد... فوجود مؤسسة تعليمية كبناية في منطقة نائية يدل على حرص المجتمع على سياسة للقرب في مجال بنية الاستقبال التربوية وهاجس تنموي على صعيد الاهتمام بالتكوين والتأهيل ورفع العزلة. كما أنها أثر للدولة والسلطة ودليل على الحضور والتواجد والمراقبة.
ج -الحاجة الجمالية: لا يخلو معمار ما من جمالية معينة، فشكله الهندسي ينم عن تصور وإنجاز معينين وانتماء استطيقي يحيل على اختيار طراز دون آخر. فمثلا حتى القسم المبني بالمفكك يحمل معه إلى مختلف أرجاء الوطن اختيارا هندسيا وتدبيرا معينا لإشكاليات الفضاء وآجال الإنجاز.
أما شكل العمارة فهو عبارة عن نص مكتوب على صفحة الطبيعة يحتاج إلى عدة معرفية متعددة الاختصاص لقراءة وتفكيك حروفه ومفرداته الثابتة في الفضاء، لكن المتحركة في التمثلات ومواقع النظر.. لكن سوف نحاول اقتحام الموضوع عبر مداخل مفاهيمية علها تكون مفاتيح للإطلالة الجزئية على الموضوع، واخترنا لذلك مفاهيم :المراقبة، الذاكرة، العبور، التكوين.
* المراقبة:
من دون عناء نلاحظ أن العمارة المدرسية تم تصورها كي تقوم بدور المراقبة والمعاينة خاصة وأن الأمر يتعلق بمكان لتواجد الأطفال واليافعين المتنطعين والمنفلتين والذين يخاف عليهم المجتمع من الانحراف عن مبادئه.... فالدخول إلى المؤسسة يتم عبر باب يتم فتحه وإغلاقه بواسطة نظام زمني محدد ويتكلف بالأمر حارس يكون منزله ملتصقا بهذه البوابة كي يمارس مهمة المراقبة على مدار الساعة وقد تم تفويت هذه المهمة إلى شركات خاصة، متخصصة في هذه الخدمة.
- إن تراص القاعات يأخذ شكلا يسهل مراقبته بنظرة مراقب واحد عبر معاينة داخلية أو خارجية.
- إن بناية الإدارة تتواجد في مكان يسمح بمراقبة متعددة : أولا ولوج المؤسسة أو مغادرتها وكذلك النشاط المزاول في القاعات وكذا في الساحة أو الملاعب والموظفون العاملون تشتق أسماء مهامهم من المراقبة )حارس عام، ناظر، أستاذ مكلف بالحراسة ... ( .
- في حالة وجود بناية كبيرة فإن المؤسسة تقسم إلى أجنحة ووحدات يتكلف حارس عام بها ويبنى مكتب خاص يلعب دور شرطة الحدود أو الجمارك. بين هذه الوحدة وباقي المرافق عبر التحكم في الممرات والأبواب .
* الذاكرة:
إن المؤسسات التعليمية تعد بالفعل قطعا من ذاكرة مجتمع ابتداءا من قرار الإنجاز ثم حجم الإنفاق العمومي أو الخاص وكذا نوع وشكل النخبة التي سوف تلج أو تتخرج منها. فعلى جدران المدرسة والإعدادية نقرأ تفكيرا آنيا لمستقبل آت إنها إسقاطات محتملة على مساحات زمنية معروفة أو مجهولة   . يمكن هذا إعطاء أمثلة ومقابلات بين مدارس بنيت بالمفكك في ظروف معروفة ومؤسسات ومعاهد الفترة الاستعمارية سواء في الشمال أو الجنوب، كما أننا لا ننسى الإشارة إلى المدارس العتيقة وكذا معاهد التعليم الأصيل في المدن الكبرى التاريخية. وكل نوع أو شكل من هذه المؤسسات يحمل بصمات سياسة تعليمية بل ورمزية ثقافية معينة.
* العبور:
تعد المؤسسات التعليمية أماكن للعبور بامتياز فعمارتها مكونة من ممرات ومسالك حقيقية أو مفترضة )إشارة إلى الشعب والأقطاب والتخصصات(. هذه الممرات التي تتعامل مع التلاميذ كمادة سائلة/لزجة تنساب عبر ممرات Couloirs وتتجمع في أروقة وساحات. فأنت تلاحظ انسياب الأجساد في المجال على أساس منطق المباح والممنوع في إطار ميكروفيزياء السلطة التي وضعت شكل هذه المسارب بحيث تفرض على المتواجد بها عدم الانحراف عن مسار محدد ومضبوط . إنه شكل من أشكال إعادة الأجساد إلى حالتها الطبيعية الأولى أي إلى سائل. كما أن مفهوم العبور هذا يمارس يوميا عبر العبور من فضاء إلى آخر قاعة – ملعب – مختبر – مرحاض – إدارة .... كما يمارس على المدى المتوسط والبعيد من خلال الانتقال من مستوى إلى آخر، أو قد يؤدي إلى العبور نحو خارج الفضاء الأولي نحو أمكنة أخرى ضمن خريطة التنظيم التربوي.
* التكوين:
لا يتأتى التكوين إلا في مكان / ملاذ، فالمؤسسة التعليمية تستقبل التلميذ، وقد انتزع من حضن الأم أي من فضاء الولادة / الرحم كي يوضع في رحم أكبر. فالفضاء الذي يحضنك ويلفك يعتبره « باشلار» حاملا لصورة العش الذي يحمي الفقريات من الخطر في بداية حياتها وهو الذي يعلمها مبادئ العيش المستقل ويجعلها تعاين الخطر دون الوقوع فيه.
إن الانتقال من عش إلى عش أكبر يشكل ولادة حقيقية  . ولعل صورة أم أو أب يصحب طفلا صغيرا إلى  المدرسة في شهر شتنبر وكلاهما متردد الخطى بل ومنقبض القلب أحيانا، سرعان ما يعاينا هذا الطفل الخائف بالأمس وهو يافع يضع وثائق تسجيله في الجيب الخلفي لسروال الجينز وكله حيوية ونشاط وهو يهم بالخروج لتسجيل نفسه في أقرب إعدادية أو ثانوية .. همه الوحيد هو أن يتواجد في القسم الذي يوجد فيه أصدقاؤه.. إنها فعلا ولادة جديدة تمت في رحم حاضن شكل عشا آمنا لفتر ما.

;