كتابة الاسم الشخصي ورمزية الولادة الجديدة
عبد الرحيم الضاقية
من اللحظات الفارقة في مسار تعلم الكتابة
لحظة كتابة الاسم الشخصي والتي تعكس وضعية سفر الأنا نحو الخارج ورجوعها إلى مجال
الإدراك الحسي في شكل رموز مخطوطة. وتبدو هذه التجربة من الناحية العملية عبارة عن
تمرين كتابي تخطيطي عادي لدى مهنيي التربية سواء في أقسام التعليم الأولي أو
لابتدائي لكن الدراسات تؤكد حمولاتها النفسية والوجدانية الكبيرة. وتتم بلورة هذه
اللحظة من خلال المرور أولا من مرحلة التخطيط العشوائي الذي يطور لدى الطفل مهارات
الإمساك بأداة الكتابة، واحترام حيز الكتابة كالورقة واللوحة وتنطلق الآلية برسم
أشكال تحاكي الحروف كالخطوط الدائرية والمائلة أو المتموجة أولا بدون احترام
المقاس ثم بعد ذلك بمقاس متجانس. وتحدث المفاجأة السارة في اليوم الذي يتمكن فيه
الطفل من كتابة اسمه على ورقة ويحملها لأسرته. فبالنسبة له هي عبارة عن أشكال
هندسية متراصة تمرًن عليها بمعية مُدرس/ته لمدة معينة، لكن بمجرد رؤيتها من طرف
المحيط الأسري – إن كانوا غير أميين-
تتحول في أفواههم إلى أصوات تدل على اسمه الشخصي، هنا يحدث انتقال للذات من
رموز إلى أصوات تعني المتعلم/ة بالذات. فتبدأ سيرورة التماهي مع هذه الحروف
والأشكال خاصة إذا تم الاحتفاء بها من طرف الأم والأب بوضع الورقة في مكان خاص في
غرفة الطفل أو مكان له قيمة اعتبارية. هذه الأحداث تحول الأشكال الهندسية التي
تشكل اسم الطفل إلى منبهات بصرية تختزله وتجعله يرتبط بها مما يسهل على المدرس/ة
عملية حفظها والتمكن منها من طرفه في ظرف وجيز حيث يتحول رسمها إلى عملية آلية. ويغتنم المدرس/ة
هذه الفرصة لاستعمال مكونات الاسم الشخصي في الانفتاح على كلمات أخرى بتغيير ترتيب
الكلمات أو الحذف أو الإضافة او التكرار مما يغني الرصيد ويوسع من التمكن في
المهارة الكتابية للمتعلم/ة مثل اسم «هجر» الذي يمكن أن يستخرج منه كلمة «حجر» او
«جمر» أو «هر». وعند تفكيك عناصر الوصول إلى هذه النتيجة أي إنتاج أشكال تختزل
الأنا في طور التشكل نجد العملية تحتاج إلى تعبئة مجموعة من القدرات لتجاوز
الصعوبات المتنوعة من قبيل:
التحكم في الأداة: تعد أداة الكتابة عقبة
كأداء من حيث ترويضها لتنتج ما يدور في الذهن من أشكال منظمة وذات جمالية. وقد
استعملت في المدرسة العصرية أقلام الرصاص في البداية لما لها من قدرة على التعامل
مع أخطاء المتعلمين/ات بالصفح والتجاوز عبر المسح بالممحاة وإعادة المحاولة، وهي
بهذا تخفض من الوصم الخطي والذنب الكتابي المصاحب له؛
·
الحامل المستعمل: قد يكون المسطح المستقبل
لكتابة الاسم ورقا أو لوحا أو سبورة، وبدوره يشكل تحديا فضائيا للمتعلم/ة يتعين
التحكم في مقاساته. فعندما يتعلق الأمر بالورق فإذا كانت به سطور من أي صنف كانت
فإنها في البداية تشكل حواجز أمام طفل لا يتحكم في مقاسات الحروف وأحجامها، وإذا
كانت بدون سطور فتتحول إلى مساحة مفتوحة بدون معالم مما ينتج عنه عدم تتابع الحروف
مما يفقدها الدلالة المرجوة؛
·
القدرة على الاستمرارية: الكتابة هي عملية
تركيب للحروف بشكل مسترسل وأي انقطاع أو فراغ يؤثر على المقروئية. هذه الخاصية
تشكل لدى المتعلمين/ات الصغار صعوبة إضافية لعدم قدرتهم/ن على تمرير
اليد وانزلاقها بسلاسة؛
·
التوجيه اليدوي: تعد اليد أداة الكتابة إلا
أن التحكم فيها يدخل في ضمن عناصر النضج الفيزيولوجي والنفسي لأنها تترجم ما يدور
في الدماغ على شكل رسوم وشامات.
عند إنتاج هذه الوحدة الخطية المكونة من
بضع حروف والتي تشكل الاسم الشخصي الذي يكتشفه الطفل مرسوما على عدد من أدواته
الخاصة هنا تبدأ عملية التماهي النفسي والوجداني والتي تتعزز بالقدرة الكبيرة التي
يشكلها المحيط في بناء هذه اللحمة اللاشعورية مع هذه الشكل الكتابي.هذا يجرنا إلى
فتح أقواس في دلالات كتابة الاسم الشخصي من منظور الفلسفة والتحليل النفسي ومدى
قدرة هذا الخط على كشف مكونات النفس البشرية سواء في المراحل الاولى لتعلم الكتابة
أو حتى في مراحل الوعي. ولعل هذا المنحى مثير للاهتمام حيث يميط
اللثام عن كيف يستدمج الفرد المعاني في كتابة اسمه دون وعي منه أحيانا، الذي يمثل
بطريقة ما عنصرا أساسيا من مكونات هويته. لذلك يمكن أن يكون تحليل كتابة اسم المرء
بوابة لفهم أفضل لنفسه. ففي مجال التحليل النفسي، غالبا ما يعتبر
الاسم الشخصي رمزا للهوية الشخصية للفرد، المحملة بقيم رمزية وعاطفية تمثل هوية
الأسرة والهوية الفردية الذاتية. فالطريقة التي يكتب بها الشخص أو يتلفظ اسمه يمكن
أن تكشف عن مشاعره تجاه عائلته أو أصوله أو حتى كيانه. كما يرتبط الاسم الشخصي
بالنزوع النرجسي حيث يرتبط ارتباطا
وثيقا بنرجسية الفرد، لأنه الرمز الأول الذي يسمح له بالتعريف بنفسه لدى الآخرين.
وقد أشار فرويد إلى عناصر النرجسية الأولية، والتي تتمثل في الحب الأول للذات،
ويمكن التعبير عنه بالطريقة التي يكتب بها الشخص اسمه أو القيمة التي يمنحها له. ويمكن أن
نكتشف كذلك علاقة الاسم الشخصي بالوعي الجمعي فغالبا ما يكون
إرثا مرتبطا بالفرد وبتاريخ اسرته أو عشيرته الكبرى. فيمكن أن يكون هذا الإرث
ثقيلا في بعض الأحيان وحاملا لمعاني كامنة ويعكس الرغبات أو التوقعات أو الصدمات
التي تنتقل من جيل لجيل. ويمكن الوقوف في المجتمعات الأبوية على تسجيل الاسم
الشخصي الممنوح للابن في إطار نسب متوارث بين ذكور العائلة، بل إن أخذ اسم الأب أو
الجد له دلالات عميقة تحيل على فشل الأنثى في «ابتلاع» ذكر القبيلة
أو العشيرة. وبهذا المعنى، فإن العلاقة التي يحافظ عليها الشخص بكتابة اسمه يمكن
أن تكشف عن صراعات أو مخاوف تتعلق بهذا التراث العائلي. فنجد مثلا أسماء ايدر أو يحيى مرتبطة بوفيات الأطفال في عائلة معينة
كما نجد بعض الأسماء تحمل احتفاء بمناسبات دينية او لها علاقة بالأنشطة الاقتصادية الممارسة من
قبيل بوشتى – ميلود – بوجمعة – تودا. ويعتبر ديريدا كتابة الاسم الشخصي هو كتابة
لاسم الإله ويؤشر على تجسيد لإرادة ربانية جعلت الروح تسري في جسد يحمل اسمه تيمنا
به واعترافا بقدرته، لذا فكتابة الاسم هو استثناء من الموت والزوال واحتفاء بالحياة.
ويعتبر فعل كتابة الاسم الشخصي انعكاسا لشخصية الفرد فيمكن تحليل ذلك
من خلال دراسة الخطوط في إطار التحليل النفسي، حيث يمكن الوقوف على الخيارات
الشكلية، وحجم الحروف، والضغط الذي يمارس على الورق، ويمكن أن يفصح عن صورة الشخص
عن ذاته. كما يمكن أن يعكس الاسم المكتوب بأحرف كبيرة ثقة معينة وعلى الوفرة، في
حين أن الاسم المكتوب بأحرف صغيرة يمكن أن يعكس شكلا من أشكال الانسحاب أو الخجل. ويعكس شكل
كتابة الاسم الشخصي مسألة الرغبة فحسب لاكان،
غالبا ما يتم التعبير عن الرغبة اللاواعية بشكل غير مباشر، ويمكن أن يكون الاسم
الشخصي أحد وسائل التعبير عنها. فيمكن أن تكشف الطريقة التي يكتب بها المرء أو
يستخدم اسمه عن الرغبات الخفية، خاصة تلك المتعلقة بالحزم أو الاعتراف أو حتى
البحث عن الاختلاف عن الآخرين. ولكتابة الاسم الشخصي تبعات تؤشر على أنه عبارة عن
توقيع أو إشهاد، فكم من شخص يوجد وراء القضبان لأنه كتب اسمه الشخصي بيده على
وثيقة رسمية أو إبرائية، كما أن توقيعا واحدا يمكن أن يرفع الشخص إلى مصاف علية
المجتمع بتقلده مسؤولية كبيرة أو حصوله على منصب مرموق. فمن خلال تحليل
هذه الجوانب وغيرها، يمكن اكتشاف الديناميات النفسية والعلائقية التي تكشف عن
العلاقات المعقدة بين الفرد وهويته وتاريخه الشخصي في علاقة وطيدة مع الحروف التي
يتشكل منها اسمه الشخصي.
مقالة منشورة بجريدة الأخبار اليومية – عدد
3685 - بتاريخ 21 يناير 2025