المهارات الحياتية رهان على وظيفية التعلمات
عبد الرحيم الضاقية
يشهد العالم خلال هذه الأزمة الصحية أكبر تحول على مستوى الاختيارات والتوجهات سواء في النظرة للآخر أو للذات حيث أن الموازين على وشك الانقلاب ، إن لم تكن قد انقلبت فعلا... والمدرسة من بين الوكالات التي تحضن التحولات العميقة على مستوى التفكير والتدبير تجد نفسها اليوم محاصرة بأسئلة مصيرية حول مكانة الإنسان ومستقبله وطريقة تدبيره لأشيائه الصغير والكبيرة . لقد شهدنا أن كل مقومات التطور التي بني عليها العالم المتقدم منذ عصر الثورة الصناعية قد أصبح بدون معنى في ظل التهديد المحدق بالصحة والحياة . كما أن كل ترسانة التقانة التي أحاط بها العالم نفسه أصبحت مثل أثاث غير مرغوب فيه تشبه المتلاشيات ، لكن بالمقابل فمشاعر الإنسان وبنيته الداخلية هي التي أصبحت زاده الوحيد ، بل وحتى الوقاية وإجراءاتها تتخذ من المدرسة نبعا لها فالملاحظ أن الأوساط والأمم التي استثمرت في التربية لم تجد صعوبة في تطبيق إجراءات التباعد الاجتماعي والوعي بخطورة الوباء بينما لم تفلح حتى الترسانة الأمنية والقانونية من إيصال المعلومة لأوساط لم تنل قسطها من التربية والنماذج داخل الحواضر بادية للعيان . ففي ظل هذه الحالة الاستثنائية يعد التفكير في بدائل بيداغوجية أمرا حتميا في ظل إعادة النظر الجذرية في كل شيء. ومن هذه البدائل التسلح بمهارات غير تقنية تلقح الإنسان من الداخل وتجعله مثلا صامدا أمام وضعيات فريدة من نوعها مثل تدبير القلق والقدرة على اتخاذ القرار ..وكلها مهارات حياتية يتعين على مدرسة الغد أن تدمجها في المنهاج الدراسي كي تتمكن المضامين الدراسية من إنتاج سلوكات ناجعة في إطار مجتمع متحول . وفي هذه المحاولة التي نقدمها اليوم سوف نتسائل عن أسس وأبعاد المهارات الحياتية كأفق بيداغوجي ، ثم مدى إمكانية تفعيلها ضمن المنهاج ، وسوف نجازف بتقديم بعض المسارات التطبيقية الممكنة علها تفتح الباب على نقاش مثمر وواسع .
أولاـ المهارات الحياتية : الأسس والأبعاد :
يعد مشروع المهارات الحياتية مشروعا قديما نسبيا حيث عرفته المنظومات التربوية الدولية مند عقدين من الزمن على الأرجح ، لكن التطويرات التي حدثت فيه على مستوى الاشتغال به على عدة واجهات أكسبه نوعا من القوة الاقتراحية حتى وصل إلى مستوى إمكانية بناء المنهاج على أساسه . وقد تم تطوير عدة أدوات متعلقة به سواء على مستوى المهارات المجتمعية أو العملية في إطار انفتاح المدرسة على المقاولة أو على المجتمع المدني أو في إطار الحياة المدرسية خارج الفصل الدراسي .
1 ـ محاولة في التعريف :
تختلف التعاريف المرتبطة بالمفهوم عبر مسار تفعيله في إطار المشاريع المختلفة التي تبنته أو أدخلته ضمن مكوناتها . لذا يمكن اعتماد تعريف شامل تجمع عليه أغلب الدراسات والمشاريع المرتبطة بها وهو يحيل على أن هذه المهارات نسق من المبادئ والمفاهيم تتيح مواجهة التحديات اليومية للحياة ،ويمكن الاشتغال بها في الفصل أو خارجه عبر تمريرها في مضامين مختلفة وهي قابلة للتجريب والاكتساب طول الحياة .(accesstudents.com ) ومن مزايا هذه المهارات تطورها في الزمان والمكان وحسب الوضعيات التي يوجد فيها المستعمل . فيمكن استعمال المهارات الحياتية في بعدها الأولي في التكوين بالمدرسة أي عبر اكتساب القواعد والأفكار ، كما يمكن استعمالها في البحث عن الشغل ثم في المجال المهني الصرف .ومع التطورات التي يعرفها مجال المهن وارتباطاته بالاقتصاد العالمي فهذه المهارات نفسها تعطي للفرد إمكانات واسعة لتطوير ذاته والانتقال إلى مهن أخرى أكثر أهمية بالنسبة إليه على المستوى الذاتي والمادي .وكل هذه المبادئ التي حكمت هذا التعريف هي نفسها مكونات للمهارات الحياتية .
يمكن تفكيك العناصر الأساسية لهذا التعريف من أجل توضيح مداه وتبديد بعض الخلط الذي يمكن أن يحصل عند الاشتغال به ، خصوصا وأن الجهاز المفاهيمي الموظف في المدرسة يمتح من مرجعيات ومصادر مختلفة .
· المهارات : هي جمع مهارة وعند الترجمة تصبح كفاية Skill ثم في بعض الوثائق تستبدل بكفاءة ..وقد أقرت الوثائق المرجعية الدولية على أن هناك خلطا وتبادلا للمواقع بين هذه المفاهيم من حيث الدلالة والمبتغى. فالمهارة Habileté تطلق على نسق من الممارسات العملية التي تترجم تحكما تقنيا في إنجاز مهمة أو تطبيق قاعدة أو أنجاز ، وقد تكون هذه المهمة مركبة أو مفردة . فنقول عن تلميذ/ة ماهر في إنجاز العمليات الأربع كما نصفه بالمهارة في القفز بالزانة .
· التحديات اليومية للحياة : هذا البعد هو الشبه غائب في المناهج التعليمية التي يغلب عليها الجانب النظري ، فالحياة اليومية هي نسق من الوضعيات التي لا تفصل بين الجوانب المختلفة مثل ما هو حاصل في المدرسة . لذا المهارات الحياتية تنطلق من تصور شمولي لعمليات التعلم على مستوى المعرفة الصرفة الضرورية ، ثم توظيف هذه المعرفة في سياقات حياتية معيشة لحل المشكلات اليومية لضياع الوقت أو للحفاظ على الموارد المالية .
· داخل وخارج الفصل الدراسي : يتوجه المستوى الأول من المهارات الحياتية إلى الفصل الدراسي كوحدة تنظيمية قابلة للبحث والدراسة ويمكن التحكم النسبي في مكوناتها ومعطياتها . وفي المستوى الثاني ضمن المؤسسة التعليمية أي ضمن مكونات ومقتضيات الحياة المدرسية ، مثلا في إطار نوادي البيئة أو حقوق الإنسان أو ضمن رحلة دراسية أو ترفيهية .
· الاكتساب طول الحياة : يستند هذا البعد على التوصيات الدولية وخلاصات مؤتمرات التربية الدولية انطلاقا من تقرير دولور Delors حول «التربية ذاك الكنز المكنون » ووصولا إلى الرؤية الإستراتيجية ( 2015 -2030 ) وخاصة منها الرافعة التاسعة عشر التي تؤكد على استدامة تعميم المعرفة والتربية والتعليم للجميع والتعلم مدى الحياة مع وضع المساطر التنظيمية والعملية لتحقيق هذا الهدف بالاستعانة بما توفر تكنولوجيا الإعلام والاتصال من تواصل وتعلم عن بعد ( المجلس الأعلى ، الرؤية ، ص 57 ).
· الحياة الخاصة والمهنية :غالبا ما يتم الفصل بين الشيئين على مستوى التصور وآليات الفعل الايجابي بين الخاص والمهني مع أن الأمر لا يختلف كثيرا باعتبار أن الفرد الواحد هو الذي يقوم بالدورين Acteur . يحيل الذكاء الاجتماعي على نهج نسقي تتم بواسطته استثمار المهارات الحياتية سواء على مستوى تدبير الأسرة والحياة الخاصة والتعامل المهني مع قضايا وفئات بشرية دون رابط غير المهني ، مع احترام فقط للمقياس المستعمل بدون تغيير في المبادئ المؤسسة ..
لعل هذا التدقيق المفاهيمي يكون قد أسعف في رفع بعض الالتباسات التي يمكن أن يخلقها التعريف الأول بحكم تعالق المقاربات وتشابهها ، لكنه يكون قد أفرز أسئلة قد تكون مسوغات منطقية للعناصر الموالية ضمن هذه المحاولة .
2 ـ خلفية ومرجعيات :
من خلال هذه المداخل المفاهيمية يبدو أن الخلفية النظرية التي تستند عليها المهارات الحياتية ليست جديدة بصفة كلية عن القضايا المطروحة على مستوى دائرة النقاش التربويNoosphère ،لكن طريقة تناولها أو تركيبها ضمن بنية منهاجية هي التي سوف تكون ذات أهمية . لذلك فعند الرجوع إلى كرونولوجيا المفهوم نجد أنه تم استخدام مصطلح المهارات الحياتية للمرة الأولى في المنتدى الدولي حول التربية في دكار ابريل سنة 2000 وتمت الإشارة إليه في هدفين من أهداف هذا المنتدى ضمن المواضيع المتعلقة بتعميم التعليم وتوسيع التمدرس خاصة في البلدان التي تعرف خصاصا على مستوى العرض التربوي . وتم التطرق للمهارات الحياتية عندما تم التنصيص على ضرورة الرفع من جودة التعلمات في سبيل مواد دراسية قابلة للتحويل المهني من أجل تحقيق تنمية مستدامة . وظهرت محاولات تدقيق المفهوم في تقرير تتبع التربية للجميع 2003/2004 حيث اعتبر التقرير أن المهارات الحياتية هي توليف يجمع صنفين من المهارات :
· مهارات سياقية متعلقة بسبل العيش، مثل النوع الاجتماعي والصحة والمواطنة...
· مهارات عامة ترتبط بالتصرف في مواقف ووضعيات متنوعة، مثل حل المشكلات والعمل في مجموعات والتواصل.وهي الأكثر ملائمة للعمل بها داخل الفصول الدراسية حيث يمكن الاشتغال بها ضمن المواد الدراسية المختلفة .
وقد بدأ هذا المفهوم يتضح أكثر من خلال تقرير أعد بإشراف الوكالة الكندية للتنمية الدولية، حيث قسم المهارات الحياتية إلى أربعة أصناف : مهارات سياقية و مهارات عامة ومهارات مهنية ومهارات القراءة والكتابة.
وفي سنة 2012، صدر التقرير العالمي لرصد التعليم للجميع تحت عنوان: الشباب والمهارات، وكان يهدف الى تسخير التعليم لسوق الشغل . ويعتبر موضوع تنمية المهارات من بين القضايا الأساسية في النقاش التربوي العالمي، حسب التقرير، وذلك لأهمية الموضوع وارتباطه بالرهانات الاقتصادية..
وفي 2015 تم إطلاق مبادرة المهارات الحياتية في منطقة الشمال إفريقيا والشرق الأوسط Mena في اجتماع رابطة التعليم التابعة لمنظمة اليونيسيف حيث اتفقت وفود الدول المشاركة على تنفيذ مبادرة المهارات الحياتية والتعليم من أجل المواطنة على مستوى كل دولة على حدة وعن طريق وزارات التربية في الدول المعنية . وقد تم تطوير إطار مفاهيمي وبرامجي عبر مشاورات ضمت أكثر من ست مئة شخص من الأطراف المشاركة .
3 ـ الأبعاد الأربعة للتعلم :
يعتبر التقرير المشار إليه أعلاه وثيقة مرجعية غاية في الأهمية بالنسبة لبناء الأس النظري والعملي الذي قامت عليه مقاربة تنمية المهارات الحياتية ففي مقدمة التقرير يقدم جاك دولور التصور العام الذي حكم عمل الفريق الدولي الذي اشتغل على التقرير ودعا إلى أن التربية تتيح دخول رهان التقدم والعدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة في جو من الحرية . واعتبر أن التربية تعتبر طريقا سالكا أمام ألجيال من الأطفال والشباب لولوج القرن 21 الذي يحبل بمجموعة من التحديات أهمها الثورة الجديدة في ميدان الإعلام والاتصال والانتصار على حتمية الجغرافيا بتجاوز مفهوم المسافة.كما أنه يتميز بالغنى الكبير على مستوى المعارف والمهارات وسلاسة الوصول إليها في أي بقعة من الأرض . وفي المقابل تبدو الحقبة الموالية مليئة بالمخاوف والتوثرات المحلية والكونية ، كما تعرف عقبات كبرى على مستوى آثار العولمة التي تتجه إلى محو كل ماهو محلي لسيادة الكوني الذي يتجاوز الطابع المحلي مما يعقد من مهمة التربية على المدى المتوسط والبعيد .وعلى هذه التوجهات بنى التقرير في قسمه الرابع مبادئ تربية المستقبل على أبعاد أربعة :
· بعد المعرفة : يقوم هذا البعد على اكتساب حد أدنى من المعارف العامة الذي يشكل أسا يمكن بواسطته الانتقال إلى التعلم الذاتي عبر التكوين عبر منصات إلكترونية متاحة تساعد على الدخول إلى المعرفة من مسارب وطرق مختلفة ( الصورة – الشريط – اللعب – المحادثة الفورية ...).
· بعد المهارة : لا تحيل المهارة فقط على الاشتغال اليدوي البسيط بل تشمل عمليات ذهنية مركبة تتيح التعامل مع التكنولوجيا الرقمية بوصفها آلية تنظيمية لإنجاز المهام والعمليات حيث أن القرن 21 سوف يعرف ثورة في التسيير الآلي لجميع عمليات الإنتاج والتي سوف تصبح مرتبطة بحواسيب آلية .
· بعد العيش مع الآخرين : يعد هذا البعد من التجديدات المهمة التي حملها تقرير دولور حيث مس اتجاها جديدا في التربية قلما تم الاهتمام به باعتبار أن التعلم يتم بهم ذاتي أولا. ومن مسوغات هذا البعد الخلفية التاريخية للقرن 20 وبداية القرن 21 التي طبعتها أشكال مختلفة من العنف الجماعي والفردي حيث كان شهد القرن الماضي حروبا ضروسا أدت إلى تغير جذري في العلاقات بين البشر ، كما أن نهايته كانت ايذانا ببداية أشكال جديدة من العنف سميت " إرهابا " متعدد الأشكال التلاوين والدوافع
· بعد الكينونة : تهدف التربية لبناء الفرد كي يكتسب استقلالية على عدة مستويات منها: الفكر – الجسد – الذكاء – الحس الجمالي – المسؤولية الفردية – الروحية ..
كل هذه الأبعاد توجد اليوم على مرمى حجر من الهجوم الكاسح للاقتصاد المعولم ووسائل التواصل الاجتماعي التي تتجه إلى تهجين وتوحيد الرؤية الجماعية مما يولد الاستلاب وإذكاء آليات الاقصاء والنبذ الجماعي الذي تبثه بعض المنابر والمواقع الإعلامية ذات التأثير الخفي . إن المهمة الرئيسة لتربية القرن 21 هي إعطاء التلاميذ/ات موجهات ثقافية يستطيع بواسطتها فهم العالم من خلال تطعيم المناهج بحرية التفكير ، والتجرد ،ومنح الخيال مكانة كبرى في بناء المواقف ، والانفتاح على تفكير الغير ، والتحكم في المصير الذاتي بعيدا عن الشحن والتوجيه .فالمواد الدراسية يتعين أن تكون ذات بعد عملي صرف ( فيزياء – رياضيات – علوم الحياة واللأرض – تكنولوجيا ..) لكنها يتعين أن لاتنسى جانب الإبداع والجانب الجمالي في في الفرد من خلال عدم إهمال مواد إبداعية ( الشعر – القصة – الرسم ..). فالمدرسة بواسطة العمل توحد التفكير المنطقي عبر منحها فرصة السفر في الذات مما يولد النضج الذي يتحول إلى سلوكات مسؤولة ، إذن فالتربية على هذا المستوى هي سيرورة جد شخصية وفي نفس الوقت هي بناء اجتماعي متفاعل .(Delors, 1999, p94 ).
هذه الأبعاد تم تقديمها بشكل منفصل لضرورات منهجية مما لا يعني أن اشتغالها ضمن المناهج الدراسية يتخذ نفس الطريق ، فالمستهدف من هذه المقاربة كما هو مبين في عدة مناسبات هو التلميذ/ة أو الطفل الممدرس /ة الذي يتلقى معلومات ومهارات ضمن المدرسة بشكل متفاعل ومتناغم .
ثانيا : المهارات الحياتية وإعادة النظر في المناهج :
تهدف مقاربة الاشتغال بالمهارات الحياتية بناء رؤية شمولية وإصلاحية جذرية للتعليم من خلال إعادة بناء المناهج على أسس صلبة تمتح من دعم التربية على حقوق الإنسان وتعزيز القيم وبناء مجتمع متماسك وقوي على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية . وهذا الرؤية تتماشى مع الرؤية الاسترتيجية للتربية والتكوين 2015 -2030 التي تؤكد في الرافعة 12 على بناء نموذج بيداغوجي قوامه التنوع والانفتاح والنجاعة والابتكار ومنفتح على مستجدات العصر والمعارف والمناهج والثقافة والقيم الكونية .وعلى هذا الأساس ومن أجل تناغم بين التعليم والتكوين تم تبني المهارات الحياتية على الصعيد الوطني والدولي من خلال تجارب مختلفة .وبرز التوجه الوطني واضحا من خلال تبني المهارات الحياتية في النظام الجامعي الجديد المنفتح على التجربة الانجلوسكسونية حيث أصبح لزاما على المستويات الدنيا للمدرسة ( الابتدائي والثانوي ) تبني مناهج وبرامج تدمج المهارات الحياتية في المواد الدراسية المختلفة . و خلصت التحليلات المختلفة إلى أن المهارات الحياتية ليست كفايات أساس للمواد الدراسية لكنها أبعاد معرفية ومهارية واجتماعية تروم بعث دينامية جديدة في فعل التعلم ودراسة مدى قابلية المواد الدراسية للمساهمة في استقلالية الفرد وتمكنه من ولوج عالم اليوم بكل ثقة .
وقد انطلق التفكير الحالي في إعادة بناء المناهج على أسس مفتوحة بعد تبني الرؤية الإستراتيجية والمصادقة على القانون الإطار مما أفرز ضرورة بناء نموذج بيداغوجي مرن وقابل للتطوير ، على أساس المسوغات التالية :
· أن تطوير المنهاج عملية دائمة ومستمرة، ومؤشر إيجابي عن دينامية المنظومة التربوية وتفاعلها مع الطلب الاجتماعي ومع ما يعرفه العالم من تطورات.
• الانسجام مع فلسفة الميثاق الوطني للتربية والتكوين والوثائق المرجعية للإصلاح القائمة على المراجعة المستمرة للمنهاج.
• البلورة لإرساء مدرسة وطنية جديدة، مدرسة ما بعد البرنامج ألاستعجالي، مدرسة مواطن الغد المرتكزة على الانطلاق من المشاورات الواسعة مع مختلف الفاعلين والشركاء .
• وضع أسس علمية ومنهجية لإعداد المنهاج وضمان استمرارية تطويره ليستجيب للثورة الرقمية التي يعرفها العالم وتعرف تفاعلا نشيطا من قبل رواد المؤسسة التعليمية من مختلف الأعمار والمستويات .
• وضع آليات للتتبع والرصد والمراجعة المنتظمة/الدورية للمنهاج. (شفيقي ، 2017 )
وقد بدأ العمل في السلك الابتدائي من خلال عدة مشاريع من بينها مشروع القراءة المبكرة بعد اكتشاف الصعوبات الحقيقية التي يعاني منها التلاميذ/ات. فقد تم تحديد الرصيد الأولي المشترك بين كل التلاميذ/ات من أجل الانطلاق منه لبناء الكلمات التي سوف تبنى عليها الثقافة المدرسية. ومن التجديدات على هذا الصعيد إدخال الحكايات في تنمية الرصيد اللغوي من خلال التعرف على الحكاية وفك لغزها ثم القيام بتمرين يتم فيه تحوير الحكاية من طرف التلاميذ/ات لصنع حكاية أخرى عبر استعمال جمل وظيفية، وتفعيل قواعد اللغة والسيطرة على الكلمات وبناء الخيال في أطار مقاربة تواصلية مفتوحة.
أما على مستوى الإعدادي فقد بادرت وزارة التربية الوطنية لطرح قراءة في المنهاج من طرف الفاعلين/ات المباشرين عبر ورشات محلية وجهوية لوضع تصور حول عناصر القوة والضعف وإمكانيات التخفيف من البرامج أو التعديل.ثم تبني برنامج تجريبي محدود للمهارات الحياتية في المواد الدراسية ( في أربع أكاديميات : الشرق – تطوان – مراكش – سوس) مع قياس مدى التوصل إلى تمحيص الفرضيات التي تم التوصل إليها في إطار مجموعة دول شمال افريقيا والشرق الأوسط على مدى عقدين من الزمن . وهنا يمكن السير وفق خطة عملية تروم :
· إعادة تملك المنهاج الدراسي للسلك الإعدادي عبر قراءات مستعرضة داخله.
· محاولة حل مشكلات تفتقر لحلول جاهزة عبر آلية المشكلة المحلولة بشكل منهجي Problème Résolu d’une Façon Méthodique (P.R.F.M).
· الاشتغال وفق الذكاءات الجماعية لكل فريق تربوي محدود سواء على مستوى المؤسسة أو على مستوى الحوض التربوي .
· الذهاب إلى الأقسام محملين/ات بفرضيات عملية تنطلق من الصعوبات الحقيقية التي يطرحها المنهاج في مختلف المواد من أجل العمل على التعرف على معالم يمكن الانطلاق منها نحو التغيير الذي يتعين أن يكون مع الفاعلين/ات المباشرين وليس عبر ترسانة من المذكرات والتوجيهات الفوقية .
· خلق فرص حقيقية من أجل إخراج ما يروج في أذهان التلاميذ/ات من خلال تقنية القسم المعكوس Classe Inversée .
وسوف يكون ورش المهارات الحياتية موجها في هذا المجال من خلال منحه أداة منهجية قادرة على طرح السؤال على المنهاج من داخله وبشكل عملي. وهنا يأتي دور الشركاء لتركيب مختلف المعطيات من خلال هذا المشروع الذي يمكن اختزال أهم موجهاته في:
§ علاقة المهارات بالمعرفة : تقدم المدرسة معرفة خضعت للنقل الديداكتيكي لكن ما نحتاج إليه هو معرفة مبنية بشكل آخر وليس لحد ذاتها .
§ بُعد الفعل في المعرفة Employabilité: محكوم على تلميذ/ة اليوم شاب الغد أن يتدرب على الاشتغال بأكثر من مهنة إذن تعلم أكثر من مهارة حياتية ، مثلا المهندس يتعين عليه إتقان التواصل وصناعة القرار كي يعطي فعالية للمهارات التي تلقاها وليس إتقان مهارات تقنية مرتبطة بالرياضيات والفيزياء فقط .
§ بُعد الكينونة /البعد الذاتي Savoir être : ينطلق بناء الكينونة من المدرسة ففي المدرسة تؤخذ المبادئ الأساسية للعيش في تناغم مع الآخر، ويعد هنا المدرس/ة هو الحليف الأول للتلميذ/ة فعليه يسقط المتعلم/ة كل المخاوف التي يشعر بها في مواجهته اللايقين والتردد والخوف الملازمين للتعلم .( Morin , 2000 ,p93 )
§ المهارة الحياتية /الاجتماعية : وهي التي تتيح العيش مع الآخرين في وضعيات مختلفة ومعقدة في الآن ذاته ويمكن تفريعها إلى قدرات ذات قيمة مضافة كثيرا ما لا يتم الالتفات إليها .
§ تنمية الفضول Curiosité : يعد الفضول قدرة فطرية لدى الإنسان والدليل هو جذوة السؤال لدى الأطفال في سن معينة. ويمكن التفاعل مع هذا البعد من خلال وضعيات متناقضة من أجل خلق اللاتوازن المعرفي لدى المتعلم/ة Etre dans la contradiction pour déstabiliser les connaissances .( شفيقي ، 2018 ) وهذه الآلية سوف تغير هندسة المنهاج الدراسي القائم على النقل المعرفي للمعلومات نحو منهاج يضع المتعلمين/ات في وضعيات حقيقية لحل المشاكل من خلال معرفة طرح الأسئلة الملائمة لكل وضعية ثم الانفتاح على المنصات المعلومات الرقمية المتاحة من أجل انتقاء المعلومات والذهاب مباشرة إلى الهدف . وهذا المسار سوف ينمي مهارات جديدة قوامها البحث والتقصي والغربلة وترتيب الأولويات بالتسلح بمهارات حياتية جديدة مثل التعاون والتواصل واتخاذ القار والتفكير النقدي .
ثالثا ـ المهارات الإثنا عشرة:
1 ـ البعد المنهاجي للمهارات الحياتية :
قطع مسار اختيار المهارات الاثنان عشرة من طرف المنظمات الدولية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا أشواطا مهمة قبل تبنيه من طرف الجهات الحكومية والمدنية .وقد انطلق الحوار ضمن منظمتي اليونسكو ثم اليونيسيف والوكالات الدولية التابعة للأمم المتحدة إضافة إلى الشركاء المؤسسين من جامعات ومراكز بحث ومنظمات دولية مهتمة بحقوق الطفل والإنسان ليفضي إلى اتفاق شامل تمت المصادقة عليه سنة 2015 . وقد تم اعتماد الوثيقة المرجعية الأساس التي أنتجتها اليونسكو سنة 1999 والتي أشرف عليها الخبير الدولي جاك دولور بعنوان « التربية : الكنز المكنون » والتي اعتمدت الأبعاد الأربعة للتعليم كما هو مفصل أعلاه ومنها تم استنباط ثلاث مهارات فرعية لكل بعد . وقد تم بناء هذه التركيبة النسقية وفق منظور يستحضر :
· الجانب القيمي الذي يهم كرامة الإنسان ويعزز قيم حقوق الإنسان في بعدها الكوني كما هو متعارف عليها ؛
· إعادة التفكير في أنشطة التعليم والتعلم بطريقة تؤدي دورها كاملا في تعزيز التماسك الاجتماعي والاتجاه نحو مواطنة إنسانية تنبذ العنف بكل أشكاله ؛
· التعلم مدى الحياة وعدم اقتصار تعلم المهارات الحياتية على سن أو مستوى معين ، والاتجاه نحو التأكيد على أهمية اكتساب المهارات 12 منذ سن مبكرة والاستثمار التراكمي في التشبع بها سواء تم ذلك في تعليم نظامي أو في إطار غير نظامي ( يونيسيف ، 2017 ،ص 6 ) .
أما على مستوى الهندسة المنهاجية للمهارات الإثنا عشرة فإن الوثائق المرجعية الدولية تقترح الاشتغال بمبدأ تكامل المهارات وتداخلها ضمن المواد والتخصصات الدراسية وكذا على مستوى أشكال التعلم سواء العملي أو المدرسي أو التكنولوجي . كما تحث التوجهات العامة على ضمان اتساق المهارات مع المواد المدرسة كلها ولا يجب أن تبرز ضمن تخصص واحد ، أي تكون ذات طبيعة مستعرضة Transversal . ومن أجل مزيد من الفعالية ينبغي إدماج المهارات الحياتية ضمن التعليم المهني والتداريب التقنية من أجل صقل مهارات الشباب وفتح آفاقهم/ن على سوق الشغل . وعليه فإن هذه المحاولة سوف تطبق ما تم بناؤه آنفا من اعتماد ترتيب المهارات حسب الوثائق المرجعية وسوف يتم الاشتغال عليها في إطار المدرسة بمعناها العام كما هو مبين في الإطار النظري والمفاهيمي .وفعلا كانت الأوراش التجريبية المفتوحة على الصعيد الوطني مناسبة لتجريب العدة والانتقال بها إلى مستويات الفصل الدراسي في المواد المدرسة في السلك الإعدادي .ففي مادة اللغة العربية مثلا تم الاشتغال بالمهارات الحياتية من خلال إعادة النظر في التصور الديداكتيكي للمنهاج من خلال الاجتهاد في ايجاد وضعيات مسعفة في تفعيل المهارة على مستوى الارتباط المضاميني أو المهاري مع المهارة المستهدفة. قبل انتقال إلى التطبيق على مستوى توطين المهارات الحياتية ضمن جذاذات الدرس: مثلا الدرس القرائي الذي يسعف في انخراط التلاميذ/ات بشكل إرادي في صياغة الفرضيات والاستكشاف وصولا إلى القراءة التركيبية التي تبرز المهارة/الهدف بشكل فعلي (ناس الفقيه، 2019 ، ص 100-101). نفس المسار التجريبي سلكته مختلف المواد الدراسية مم خلال إعادة قراءة المنهاج وتحليل مضمونه بشكل يسهل عملية التوليف بين المهارات الحياتية والمضامين المعرفية والقيمية .ثم الانتقال إلى بناء أصناف من الجذاذات المنذجة Fiches modélisantes التي تلونت بألوان التخصصات المعرفية التي تنتمي إليها في المجموع تسع مواد دراسية .وكان التجريب الضيق والموسع آلية أخرى لمواجهة الواقع المدرسي بكل عناده . وقد استطاعت الفرق الجهوية والإقليمية اكتساب مناعة بيداغوجية أمكنها اقتحام مجاهل المنهجية الجديدة وإيجاد حلول في عين المكان مما ينم عن حيوية الأطر التربوية الوطنية وبعد نظر التأطير الوطني للعملية سواء على الصعيد المؤسسي أو من جانب الشركاء .وتختزل الخطاطة التالية المهارات التي انصب عليها التجريب:
2 ـ البعد التطبيقي للمهارات الحياتية :
يعد الواقع المدرسي هو المحك الحقيقي الذي يمكن من الحكم على مدى التمكن من تفعيل هذا الخيار البيداغوجي بشكل ناجع . وعليه كانت آلية التجريب من الوسائل التي ساعدت على بناء النماذج والآليات المنهجية دون التفريط في الحذر المنهجي ووضع احتياطات ومحاذير قادرة على تغيير المسار في أي لحظة . كل ذلك في إطار من التشاور والانفتاح على التجارب الدولية : أولاها التجربة العربية وخاصة منها الفلسطينية التي قادتها جامعة بيرزيت بشراكة وتعاون مع وزارة التربية الفلسطينية ، ثم التجربة الفرنسية عبر المركز الدولي للدراسات البيداغوجية الذي وضع خبرته رهن إشارة الفرق الجهوية مما مكن من وضع تصورات ونماذج مجربة لكيفية ولوج المهارات الحياتية للأقسام الوطنية .كما تم تفعيل آلية العينة القصدية من خلال الاشتغال مع أربع أكاديميات وضمنها المديريات الإقليمية التي تكلفت كل واحدة منها بمادة دراسية . وعلى هذا الأساس يمكن أن تكون هذه المقالة وسيلة لتقاسم التجربة مع المهتمين/ات والفاعلين/ات المباشرين/ات من خلال وضع هيكل عام لدرس افتراضي يفعل المهارة / المهارات الحياتية من خلال الخطاطة التالية :
تبدو لنا هذه الخطوات الثمانية مختزلة لمسار طويل من التساؤل والتجريب والبحث أمكن الوصول إليه عبر نمذجة الحلول وتقاسم التجارب والنقاش الداخلي ضمن المواد الدراسية . أملنا أن تتحول الممارسات التدريسية عن أهدافها الأولى – التي عمرت طويلا – في أفق تسليح أبنائنا وبناتنا بعدة من الكفايات الناعمة SOFL SKILS القادرة على منحهم مكانا ضمن ما يمور على المستوى العالمي وتمكنهم/ن من استثمار تعلماتهم في الحياة العامة . ولعل التحولات القادمة لكفيلة باعتمادها كبديل تربوي على أصعدة مختلفة بدأت بوادرها في المقاولات ثم انتقلت إلى الجامعة . مما يفرض على المدرسة استدماجها ضمن الإصلاح القادم للبرامج والمناهج شرط إعادة النظر الجذرية في هذا الخليط الهجين الذي تتميز به مضامين كتبنا المدرسية على مستوى المضامين والطرق التربوية العقيمة الغير قابلة للتصنيف أحيانا . لدا فالمعول على الأجيال الجديدة من المؤطرين/ات والمدرسين/ات لاستثمار العدة المعرفية والأداتية التي تتيحها تكنولوجيا الإعلام والاتصال من أجل إحداث نقلة نوعية في الممارسات اليومية داخل القسم المغربي الذي ظل لمدة طويلة ينتظر زيارة رجل أسمه "الإصلاح " وتلك قصة أخرى نتمنى أن لا تطول ...
مـــراجـــع
- المجلس الأعلى للتربية والتكوين والبحث العلمي ، الرؤية الإستراتيجية 2015-2030 ، الرباط .
- شفيقي ،ف ، الهندسة المنهاجية ، محاضرات بمركز تكوين مفتشي التعليم ، 2017، الرباط .
- شفيقي ،ف، مشروع مهاراتي وإصلاح المنهاج ، مداخلة في يوم دراسي ، مارس 2018 ، مراكش.
- الضاقية ، 2018، المقاربة المجزوءاتية في التدريس ، ملتقى الثقافات ، البيضاء.
- ناس الفقيه،ن،مشروع تطوير المهارات الحياتية والمواطنة ... ، دراسات بيداغوجية ،العدد6 ، 2019.
- يونيسيف ، 2017 ، الإطار النظري والمفاهيمي ، عمان .
- Develay , M,1992, de l’apprentissage a l’enseignement ,ESF
- Delors , 1999 ,L’éducation : un trésor est caché dedans ,Odil Jacob , Paris.
- Altet ,M, Quelles pratiques pédagogiques dans un curriculum de compétences intégrant des compétences de vie , Rabat , 2019
![](https://blogger.googleusercontent.com/img/b/R29vZ2xl/AVvXsEgSvCEjSShx0pBOAcpDd5_QCzgSu5wy5WyPyXiTEZM5VvEhxWeqX-9fQOBqxbOD1NVBfsX2X69SGKAZh4UBcat08FHGNnb-HH_uEpEp09gkizkKnuufLnE_WYnUh73gUoRN7ypoPsqj31M/s640/c.png)