الاثنين، 5 أغسطس 2019

"ترانزيت" عبور الجبال من تالوين للبيضاء .. رحلة البأساء والضراء

"ترانزيت" عبور الجبال من تالوين للبيضاء .. رحلة البأساء والضراء
كل يوم أربعاء تعرف الطريق الرابطة بين الدار البيضاء وإقليم تارودانت حركة ذهاب وإياب لسيارات تمر من الطريق الجبلي، ذي الطبيعة الخلابة؛ وعلى متنها أناس وسلع وأموال أرسلت من أبناء إلى آبائهم، وكذا زيت أركان وأملو و"زعفران حر" من آباء إلى أبنائهم.
هذه الوظيفة التي تؤديها سيارات النقل المزدوج هذه، منذ زمن بعيد، لم تطف على السطح سوى بعد حاثة فاجعة إجوكاك بإقليم الحوز حين أطمر جبل من الأوحال والأحجار والأتربة واحدة منها.
تنديد نقابي
على إثر الحادثة الطبيعية الخطيرة، التي وقعت، يوم الأربعاء 24 يوليوز الماضي، على مستوى واد توك الخير، بين جماعة إجوكاك وآسني بإقليم الحوز، والتي ذهب ضحيتها عدة أشخاص، أكد المكتبان النقابيان لقطاع النقل المزدوج بإقليمي الحوز وتارودانت (إ.د.م.ش) أن سبب تلك الحادثة هو النقل السري (الخطافة).
وأشار نقابيو النقل المزدوج بالحوز وتارودانت إلى أن سيارة النقل السري المطمورة لا تربطها أي علاقة بقطاع النقل المزدوج؛ ونددوا بالفوضى التي تعرفها هذه الظاهرة بإقليم الحوز، مستنكرين ما وصفوه بـ"الصمت المطبق الذي تنهجه السلطات الأمنية وعناصر المراقبة بخصوص انتشار هذا النوع من النقل بين إقليمي الحوز وتارودانت".
ابن تالوين يحكي
عبد اللطيف البرمكي، الذي فقد عمته في فاجعة إجوكاك، قال لهسبريس: "ما يطلق عليه المهنيون "الخطافة"، يسميهم أهل المنطقة، التي رزئت في خمسة عشر من الهالكين، "العتاقة"، لأنهم يشكلون منقذا ونعمة للقاطنين بتالوين ودواويرها، وللشبان الذين لا يملكون ثمن العودة إلى الدار البيضاء".
وأضاف أن "النقل السري يقدم خدمات جليلة، تتمثل في تسهيل صلة الرحم بين الأسر وأبنائها بالدار البيضاء ومراكش"، مشيرا إلى أن هذه المركبات تنقل الناس والمواد الغذائية كزيت أركان وأملو والعسل، وكذا الأمهات والجدات من منزل بتالوين إلى منزل آخر بالعاصمة الاقتصادية أو المدينة الحمراء".
ذكريات لا تنسى
ما حكاه البرمكي عززته حكاية عبد الرحيم الضاقية، وهو إطار بقطاع التربية الوطنية، عاش ذكريات راسخة، سجلت خلال رحلاته عبر هذه الوسيلة منذ ثمانينيات القرن الماضي، وطفت على السطح بمجرد سماعه خبر فاجعة إجوكاك.
"في التناول الإعلامي لتفاصيل الحادث المؤلم، تتبدى لي معالم حياة ماضية، لا تزال معالمها وشخوصها وصخبها تنتشر في أعماق وجداني؛ إنه النقل الجماعي بين منطقة تالوين والدار البيضاء، حيث ترتبط قبائل سكتانة وزكموزن وأسكاون واوزيوة بالبرنوصي ودرب ميلا والألفة ودرب عمر؛ مستقر الجالية التي تمثل هذه الربوع في "المغرب النافع"، ما وراء تيزي نتاست"، يقول الإطار التربوي.
ويضيف أن "الترانزيت في ربوع تالوين ليس سيارة نقل فقط، بل نمط عيش، بدأت تباشيره الأولى في بداية الثمانينيات على الأرجح؛ حين كان أحد العمال المهاجرين بالديار الأوربية يشتغل بشكل موسمي، فيقضي نصف السنة الأول في بلاد المهجر، ويعود في النصف الثاني إلى المغرب. وكعادة مهاجري الثمانينيات، فقد كان يأتي بسيارة من الحجم الكبير محملة ببضائع الخارج (برا)، كي تساعده على تحمل البطالة النصف سنوية، وشيئا فشيئا بدأ ينقل بعض أقاربه وأهل الدواوير المجاورة إلى المدن القريبة من مراكش ثم الدار البيضاء، حيث كانت الرحلة تدوم أسبوعا".
ويتابع هذا الشاهد، الذي خبر طريق تالوين مراكش عبر إجوكاك، قائلا: "لقد ساعدته معرفته بالمسار والمسالك الوعرة في تيزي نتاست، التي كانت في جزء كبير منها عبارة عن مسلك غير معبد من تلات نيعقوب"، مضيفا أن هذه المركبة "كانت تستجيب لحاجة لم تكن الحافلات المهترئة والقليلة، التي تعبر المنطقة نحو أكادير ومراكش من الطريقة الوطنية، تلبيها".
"الترانزيت" والموظفون
ويحكي الضاقية أن "الترانزيت" كان "يوفر النقل المريح والسريع، الذي يقلص مدة السفر إلى النصف تقريبا، مما أكسبه شعبية كبيرة في المنطقة؛ ومع توالي السنين تفرغ صاحبنا المهاجر كليا للنقل العابر لتيزي نتاست؛ ودخل معه شركاء في الطريق، مما وسع نطاق الذهاب والإياب نحو الوجهة المفضلة، فأصبحت الخدمة تشمل حتى الرباط لقضاء بعض الأغراض الإدارية. ولم يعد هذا النقل مقتصرا على الزبائن من سكان المنطقة، الذين يزورون أهلهم وذويهم، بل انضاف إليهم الموظفون، الذين يفضلون التنقل ليلا، للوصول صباحا إلى مدينة الرباط؛ فبدأ "الترانزيت" يقوم بدوره حتى داخل المدينة، بين الإدارات المعنية، وبعد قضاء الأغراض، في المساء تكون رحلة العودة الليلية إلى مقرات العمل دون عناء".
من منزل إلى آخر
لعل شعبية هذا النمط من النقل، يقول الضاقية، تتجلى في استجابته لحاجيات سكان المنطقة، فالابن المرتبط بعمله في الدار البيضاء أو البنت المتزوجة في برشيد مثلا، تصادف صاحب "الترانزيت" في أحد أحيائها أو المقاهي المعلومة، وتوصيه بنقل أحد أقربائها من دوار في أعماق سكتانة أو زكموزن أو إغيل؛ وتؤدي له ثمن الرحلة مسبقا، وبعد الوصول إلى تالوين يعلم الأم أو الأب أو العم أو الأخت بأنه مدعو إلى العاصمة الاقتصادية عند قريبه.
"تصور ما هو شعور أم أو أب لا يعرف شيئا عن كل ما جادت به الحداثة، من وسائل وطرقات وغيرها، ينقل من دواوير تالوين الجبلية، ويفتح عينيه بين أحضان ابنه أو ابنته بإقليم الدار البيضاء ومراكش، مصحوبا بمنتوجات المنطقة من "الزعفران الحر"، أي ما خف وزنه وغلى ثمنه وارتفعت قيمته في عين المتلقي"، يسترسل الشاهد في حكيه.
ويشير الضاقية إلى أن السوق الأسبوعي يعتبر مجالا مثاليا يتيح لصاحب "الترانزيت" جمع المرشحين للسفر، ويضيف أنه غالبا ما يتم ذلك يوم الأربعاء مساء، حيث يقضي ذلك اليوم في التنقل بين الدواوير من أجل شحنهم، بدون كلل، فينتظر الجميع في جو حميمي، ويكون معززا مكرما، فها هو يشرب الشاي في دوار تسوسفي، ويتغذى عند عائلة في تابيا. فالسائق، يقول الضاقية، بمثابة أحد أفراد الأسرة، مشيرا إلى أنه رغم الضبط الاجتماعي في المنطقة، فإن تواصله مع النساء يتم في جو احتفالي عائلي؛ تبدو من خلاله الفرحة التي تأخذ الجميع من أجل إطفاء لوعة الغربة، ولقاء الأبناء والأقارب. ويضيف الإطار التربوي أنه بعد ما يحين وقت الانطلاق يجلس ما بين 15 أو 18 شخصا، متقاربين من حيث اللغة والقرابة والمنطقة، مما يقلص مسافة الطريق التي لا يحس بطولها المسافر.
رحلة الليل والمخاطر
وعند مغيب شمس اليوم الموعود تنطلق رحلة "الترانزيت"، ومن أجل تجاوز كل مراقبة في الطريق، يتم التوقف أحيانا للتأكد من خلوها من الدرك، الذي يعد هاجسا بالنسبة إلى نساء ورجال لم يرو قط دركيا؛ بل إن بعض النسوة يكتشفن الطريق المعبدة لأول مرة في حياتهن. ويروي الضاقية "في إحدى رحلاتي عبر هذه الوسيلة في بداية صيف 1983، تساءلت إحداهن عندما عبرت مدينة مراكش، على الساعة الواحدة صباحا، ألا يطفئ المسؤولون الضوء في الشوارع ليلا؟".
هذه الرحلة التي يقطعها "الترانزيت" من تالوين إلى مراكش عبر جبال الأطلس الكبير، فيها الكثير من المتعة والمعاناة وهم الوطن الكبير. بعد النزول نحو منطقة أولاد برحيل يتوقف صاحب المركبة في مقهى للاستفسار عن الطريق، وعند وجود الدرك يحول مجرى السير من الطريق المعبدة إلى مسلك بين الحقول، حتى الخروج إلى الطريق المؤدية لمراكش، يحكي الضاقية.
وبعد قطع الجبال والفجاج، تتوقف الرحلة من جديد في منطقة أسني، حيث يتوقف الجميع للعشاء؛ وعند التفاف المسافرين حول مائدة الأكل، يهرب السائق السيارة إلى ما راء مقر الدرك؛ وبعد كؤوس الشاي، يأمر الجميع بالانسلال مثنى أو ثلاثا، من أجل قطع مسافة تقارب 700 متر للوصول إلى السيارة الفارغة، والتي مرت تحت أعين المراقبة بدون مشكل أو بأخف الأضرار.
وفجر اليوم الموالي، تكون ساعة الوصول إلى الدار البيضاء قد حانت لتوزيع الزبناء على منازل ذويهم و"الأمانات" على أصحابها، فالخدمة تضمن الانتقال من منازلهم بتالوين حتى منازل ذويهم بمراكش أو بالعاصمة الاقتصادية، يروي عبد الرحيم الضاقية، وهو يسترجع ذكرياته حين كان مدرسا بمنطقة تالوين.

;