عبد الرحيم الضاقية
التدريس بالمجزوءات تجديد تربوي
يروم إعادة النظر في المعرفة المدرسية وأوعيتها الزمنية، وعلاقات المنظومة مع
عناصرها في تناغم مع تطوير وتطويع أدوات الممارسة الصفية اليومية للاستجابة لغايات
المجزوءة كتصور جديد. كل هذه المزايا تم القفز عليها عند إصدار الكتب المدرسية
الحالية ووضع الأطر المرجعية للتقويم ، فتحولت المجزوءات إلى محاور من المقررات
التقليدية ذات الطبيعة التعدادية المعرفية الصرفة . وقد أدت المنظومة بهذا
الاختيار ثمنا غاليا على مستوى الفعالية وما نلاحظه اليوم من تحول المؤسسات إلى
ساحات مواجهة بين الأساتذة/ات والتلاميذ/ات بمناسبة محطات التقويم إلا غيض من فيض
.
وتفاعلا مع التحولات والحراك التربوي الذي أعقب صدور
الرؤية الاستراتيجية وصدور القانون الإطار ، آثرنا أن نعيد طرح المقاربة المجزوءاتية
بمنظور علمي وعملي يروم الانفتاح على البحث التربوي الوطني والدولي من أجل إدخال
هذا الاختيار ضمن ورش إعادة النظر ومراجعة البرامج والمناهج الذي بدأت معالمه تظهر
، بحكم التقادم الذي طال برامج شارفت على عقد ونيف وملحاحية تطور المعرفة المدرسية
في ظل انفجار المعرفة ودخول تكنولوجيا الاعلام كل مناحي الحياة .
من الدرس إلى المجزوءة
حتى الآن
يعتبر الدرس من وحدات المعرفة المدرسية في المؤسسات التعليمية. إلا أن اعتماد
المجزوءات كمقاربة بديلة من شأنه إعادة النظر في مقياس تصور هذه المعرفة بشكل
يتلاءم مع فضاءات المجزوءة ليس فقط كإعادة تقسيم، ولكن كرؤيا جديدة لفعل التعلم،
من خلال تغيير منهجيات وأدوات العمل والإنتاج وكذا العلاقات المفترضة مع الشركاء .
يعتبر
انتقال مضمون من معرفة عالمة إلى شكل قابل للتدريس نقلا ديداكتيكيا. أي أن المعرفة
الأكاديمية خضعت لسفر إجرائي كي تصير موضوعا قابلا للتدريس. وخلال هذا السفر يتم
ردم هوتين على الأقل: - الهوة الفاصلة بين المعرفة الصرفة والمعرفة المدرسة و -كذا
مع المعرفة العامية البسيطة المبتذلة (Chevallard, 1991, p 39). وعند استقراء تاريخ المعرفة
نجدها بدأت موحدة في جذر ومصدر واحد . ثم خضعت إلى إعادة تشكيل ابتداء من القرن 17 حيث ظهرت
المواد الدراسية التي هي شكل من أشكال التنظيم /الانضباط discipline. وتعمق اتجاه التخصص في القرن 19 حيث أثرت
الأفكار العقلانية والوضعية في ما يسمى "بالشكل المدرسي" Forme
scolaire للمعرفة (Fournier, 2001, p 24) إذ توزعت المعرفة إلى مواد دراسية
متعددة، وداخل كل مادة دراسية مجموعة من المعارف المصنفة والتي تم تحديد أولوياتها
على شكل وحدات سميت دروسا أي قراءات Lectors، ثم وزعت بشكل تدريجي على المستويات التعليمية على شكل جرعات تروم
ملء فراغات شبكة الزمن المدرسي، ومع الممارسة الميدانية ظهرت عدة توترات تعود على
لسان المدرسين/ات الذين ترك لهم تدبيرها.
أ.
توتر
العلاقة بين المعرفة المدرسية والغلاف الزمني المخصص لها، فالمدرسون/ات بدون
استثناء يتفقون على عدم كفاية الوقت المخصص لدرس أومقطع أم مادة دراسية !!
ب.
توتر الغاية
من تدريس مادة معينة لتلميذ/ة ما، وسيادة أسطورة التماهي مع المادة الذي ساد في
فترات زمنية تأسيسية للمواد الدراسية . هل ندرس التاريخ لتكوين مؤرخين/ات، أم
الرياضيات لخلق رياضيين/ات، أو الرياضة لخلق أبطال/ بطلات؟
ت.
توثر آخر
يبدو ملحا في الآونة الأخير حول أولوية مادة التخصص ، على منهجية التدريس؟ بالنسبة
لبعض الأساتذ/ة الأهم هو المادة العلمية وزخمها المعرفي ، وليس التقنية التي
بواسطتها يتم توجيهها التي يعتبرونها
تفاصيل وإجراءات تنقص من قيمة المادة بل دخيلة في بعض الأحيان. لكن البعض الآخر
يرى أن الوصول إلى اكتساب تلميذ/ة جرعة صغيرة من المعرفة بآليات ذكية وملائمة أحسن
بكثير من شحن ذهنه بعدد من الإخبارات التي تندثر بعد حين .
وتعاني جميع
الدروس من هذه التوترات الناتجة أصلا عن شكل وبناء المعرفة الأولي وكذا التصورات
التي بنيت في المدرسة حول ثنائية الشمولية والتجزيء والتي أفرزت مجموعة من
المفاهيم أهمها.
·
الدرس: هو عبارة
عن مقطع من مقاطع عملية التعليم والتعلم. وقد اعتمد أولا على نشاط شفوي، فالمدرس
يعد قارئا Lector وتدريس نص يعني قراءاته الممكنة حيث أن الدرس حتى في الثراث
العربي الاسلامي يتم في المسجد ويلقيه عالم أو فقيه يعتلي مصطبةوالتلاميذ/لا
والطلبة/ات بنصتون له . ولازال هذا المنحى سائدا إلى الآن عند الحديث عن الدرس
الافتتاحي أو الدرس الديني. وتختلف دلالات المفهوم تارة عند تعيين المادة كدرس
لفلسفة أو لمستوى معين أو الحصة أو المنهجية المتبعة كالدرس الحواري والدرس
الإلقائي والدرس التفاعلي ..أما على مستوى
التلميذ/ة فالدرس يصبح جزءا من استعمال الزمن، أو جزءا من المعرفة، أو قسما من
الكتاب المدرسي المقسم بدوره إلى دروس، وحفظ أو مراجعة الدروس واجبة لمواجهة
الامتحان (Choppin,
1994, p 602). إذن فالدرس حقل دلالي منفتح على التعدد، لا ينفصل عن لحظات
الولادة المفهومية الأولى. وقد اهتدى أحد الباحثين إلى تعريف تركيبي إجرائي يعتبر
الدرس وحدة صغرى أو مقطعا يندرج داخل المنهاج أو برامجه يستمد من هذا المنهاج
مقوماته وتوجهاته. ويشتمل على عناصر ومكونات تحدد استراتيجية التعليم والتعلم،
وسبل تنفيذها في وضعيات ملموسة. (الفاربي، 1996، ص 14). وقد أصبح
الدرس موضوعا بيداغوجيا للدراسة عندما أطلق عليه في البداية "درسا
نموذجيا" يتم عرضه على مجموعة من المدرسين/ات بحضور مفتش/ة أو مؤطر/ة. يتم
فحصه وانتقاده بل والتعلم منه أشكالا من القول والفعل التي تصبح في المستقبل رصيدا
مهنيا مكتسبا ..ثم تواضع هذا الدرس تحت
ضغط علوم التربية ليصبح درسا تطبيقيا أو تجريبيا ليعلن عن صعوبات الفعل التربوي
ويحفف من تم من الغرور الديكارتي الكامن في بنيته. لكن مهما كان الأمر فتبقى للدرس
هالته القروسطية ووقاره الفلسفي المرتبط بالحكمة/المعرفة كنواة للمعرفة وجمال
القول، وهي التي تجعل من المدرس/ة الذي يلقي درسا مالكا لها والمتلقي باحثا عنها.
المجزوءة
شكلا ومضمونا
تتفق الأبحاث على أن التدريس بالمجزوءات تطور
نوعي في عملية التكوين يدوم الفعالية والحرية. فهي فضاء يتيح المرونة في تقديم
واستهلاك المعرفة وتدبير جديد للأغلفة الزمنية وحتى الفئة المستهدفة. وهي إمكانية
تدبيرية تنفتح على تنويع المقاربات استجابة لحاجيات التلاميذ (Champy,
1994, p 673) وذلك عن طريق ما يلي:
·
إعادة النظر
في تمثل المعرفة المدرسة من دروس مقررة وإجبارية إلى مراكز اهتمام كبرى تأخذ من
الكفايات الواجب اكتسابها مرجعيتها الأساسية ،.
·
تخفيف الحصة
الزمنية الفعلية، سواء بالنسبة للتلميذ/ة والمدرس/ة من أجل فتح الباب أمام البحث
الذاتي عن المعرفة.فالقسم المعكوس Classe inversé يقترح نقل
إجراءات البحث عن الموارد والفهم الأولي البسيط للقواعد والتعريفات إلى المنزل ،
وفي المقابل الانشغال بالتمرين والتمهير والتطبيق أمام الأستاذ/ة في القسم الذي
يعد الخبير في مادته .
·
تنويع طرق
التعلم عبر الانفتاح على دينامية الجماعات وطرق التنشيط والعمل بالفريق.ويعد هذا
المنحى من الأخطاء الفادحة في المنظومة التربوية الوطنية حيث رغم حضور المقاربة في
الوثائق الرسمية والتكوينات لا نجد لها أثر في الممارسات داخل الأقسام بحكم الهاجس
التقويمي الجزائي . وقد منحت وسائل التواصل الاجتماعي فرصة لتكوين مجموعات
افتراضية تركز على مشروع معين من أجل إنجازه دون الحضور الجسدي . وقد طور بعض
الأساتذ/ات آليات متطورة على صفحات الفيسبوك من أجل التبادل والتعاون الإنجاز .
·
استقلالية
المدرس/ة عن المقرر الدراسي الحرفي ، والمسار المرسوم سلفا بكل جزئياته من أجل
الخروج عن نمطية الدروس التي بنتها بيداغوجيات تحكمية .والاتجاه نحو التعاقد حول
كفايات ومهارات مرجعية نهائية لكن يمكن البحث لها عن طرق موصلة حسب مقاربات
الأستاذ/ة ، واستعدادات ومستوى
التلاميذ/ات .
·
انفتاح
المواد الدراسية على بعضها ونبذ الفوارق التي تهدر الزمن المدرسي، ولا تتيح
التكوين المنهجي للتلاميذ واكتساب الكفايات المستعرضة.فكثيرة هي المهارات التي
تنميها مواد معينة ويتم إعادة بنائها في مواد أخرى .نفس الشيء بالنسبة للمضامين
المكررة على طول المسار الدراسي للتلميذ/ة .
·
تنويع وسائل
وحوامل التعلم عبر التمرد على سلطة الكتاب المدرسي الذي سيصبح إمكانية من جملة
إمكانيات أخرى (Clerc,
1992, p 15).وهذا الأمر أصبح اليوم بديهيا بفعل انفجار المعرفة وتملك
التلاميذ/ات خاصة في الثانوية للهواتف الذكية التي تجعل المعرفة ( النص – الصورة –
الصوت – الشكل..) في متناول لمسة اليد مما يجعل تجاهل هذا الأمر اليوم من طرف
مدبري الشأن التربوي نوع من الفصام المعرفي والنفسي .
·
الانتقال من
منطق السلطة الأحادية، إلى التعاقد عبر التفاوض حول مكونات بناء المجزوءة (المضمون
– المسار – الغلاف الزمني – التقويم – تقسيم العمل ...)
إذن من خلال
ذلك نجد أن المقاربة المجزوءاتية تتخذ بعدا من اعتبار أن الدرس والمقطع ناتجان عن
إرادة المدرس/ة، فهو الذي يخطط ويحدد منطلقات الدرس ويحلل متطلبات البرنامج ويحدد
أولويات الدرس وهو الذي يحضر المادة الدراسية، ثم هو الذي يقدمها كمدرس/ة بالمعنى
الأولي للمصطلح (الفارابي، 1996، ص 82)، بينما في المجزوءة هي وثيقة تفاوض بين
الأطراف الثلاثة للعلاقة البيداغوجية: مدرس/ة – تلميذ/ة. فالمدرس/ة حاضر بتمثلاته
وتجربته وخبرته ، والمعرفة حاضرة بخصوصياتها وتاريخها الابستمولوجي. والتلميذ/ة
بحاجياته وصعوباته ومستواه . والمجزوءة تعاقد يصاغ عبر مراكز اهتمام ومواقع ربط
بين المواقف والعناصر السابقة واللاحقة على شكل التزام ينتفي فيه المركز
والمحيط.لتصبح الكفايات والمهارات المزمع الوصول ليها هي الفيصل بين مجموع الأطراف
، وفي نهاية المسار الكل يحاسب حسب موقعه وتدخله هنا تظهر المقاربات الصائبة عن
الأقل .
تقـــويم
واستيفاء المجزوءات
يدخل التقويم
ضمن صميم عملية التعلم لأنه يضع القواعد التي يتم بواسطتها وضع الآليات المتحكمة
في ربط التحصيل بالتدريس ، وضمن المقاربة المجزوءاتية فالتقويم يعد محطة فاصلة بين مجزوئتين . فمن
خلال التقويم تتم المصادقة على مفردات المجزوءة ونتائجه تتيح المرور إلى شكل آخر –
أرقى – من المعارف والمهارات . وقد أتبث هذا المنحى نجاعته في التكوين المهني
العالي وحديثا في الدراسات الجامعية ، حيث يمكن الفرد من السير وفق إيقاع معين لا
يضر بالذات كمتلقية للمعارف والمهارات .
تسود حاليا
نظرة تجعل من التقويم مرحلة نهائية في مسار التعلم، هذا التصور ناتج عن تقويم
معياري يقيس وفق مقاسات معيارية تمارس بهدف جزائي انتقائي تتمظهر مخرجاته في نظام
ثنائي النتائج : نعم / لا – متحقق / غير متحقق. لكن ضمن مقاربة تعاقدية، وضمنها
التدريس بالمجزوءات، فالتقويم شرط وجوب تتم به عملية تحديد الحاجات عن طريق تقويم تشخيصي أولي في بداية السنة وعليه تبنى
المجزوءة، ثم خلال مراحل التنفيذ تجرى تقويمات تكوينية تتيح التواصل مع الصعوبات
من أجل إعادة العدة الديداكتيكية أو إعادة التوجيه مع الاحتفاظ بالآثار المكتوبة
للتلاميذ/ات الناتجة عن التقويمات، لأنها بمثابة بطائق تقنية ترسم خريطة المسار المسلوك
، فالنقطة وحدها تبقى صماء لأن علامة 20/03 يمكن الحصول عليها لعدة أسباب، كعدم
فهم المطلوب، أو مشكل منهجي ناتج عن عدم تنظيم المعلومات، أو خروج عن الموضوع أو
عدم التحكم في الوقت المخصص . إذن فالنقطة شاشة تحجب حقائق مختلفة فحصول تلميذين
على نفس النقطة لا يعني بالضرورة أن لهما حاجيات مماثلة وأن قياس قدراتهم/ن موضوعي
.
وعليه
فالنمط المحبذ ضمن بنية تعاقدية هو التقويم المكون Evaluation
Formatrice الذي يعد
التقويم الذاتي من أهم مكوناته، حيث يستطيع التلاميذ/ات من خلالها وضع شبكات
للتقويم الذاتي تلعب دور "المرآة الصادقة" التي تكشف عن مواطن الضعف
والقوة بحيث يمكن للمتعلم/ة أن يتنبأ بنقطته ضمن مراقبة إجمالية بمجرد قراءته
للأسئلة، ومن بين التقنيات المستعملة في هذا المجال : التصحيح الجماعي لورقة تحرير
وهمية من وضع المدرس/ة تحتوي على مجمل الأخطاء الشائعة. وهي عبارة عن ورقة تحرير
حركية تضع الأصبع على الاختلافات، وتجعل مجموعة القسم معنية بالوقوف أولا على
الأخطاء من أجل رفع الطابع المأساوي عنها واعتبارها ضمن مسار التعلم، وكذا الحديث
عن العقبات الخاصة بصوت مرتفع في فضاء من التعلم المتبادل وبدون
نظرة معيارية إقصائية.
إذن فمنطق
المجزوءة مفتوح على التعديل وإبداء الرأي على أساس تعاقدات واسعة تبرم في جو من
الحرية والمسؤولية وتحقيق الفعالية في فضاء من الألفة المشيدة لمشاريع تربوية
شخصية تترجم في المستقبل كمشاريع اقتصادية واجتماعية تخدم المجتمع برمته.